(١ من ٢) ما أشبه اليوم بالبارحة

حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة يستعيد ماضي الأجداد “الفاتحين الأوائل” في البحرين

بعد وفاة حاكم البحرين، عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، عن عمر يناهز (66 عام) وذلك على إثر نوبة قلبية مفاجئة تعرض لها في 6 آذار/ مارس 1999، خلال اللقاء الرسمي الذي جمعه بوزير الدفاع الاميركي، وليام كوهين، في قصر الحاكم، وهو أخر مسؤول دولي كان قد قابله، وجرت في سياق هذا اللقاء، الذي استغرق قرابة نصف ساعة من الوقت، مناقشة قضايا التواجد العسكري الاميركي في البحرين، ودعم العلاقات التاريخية بين البحرين والولايات المتحدة الاميركية، بعد أن كان قد سمع في احدى جوانب هذا اللقاء تقريع لاذعة، من جانب الوزير الاميركي، الذي على ما يبدو أنه أنزعج من كلمات حادة قالها حاكم البحرين، عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، بحق الولايات المتحدة الاميركية، ومنها طلب تسديد استحقاق مالي متاخر للبحرين، يتعلق بدفع القيمة الايجارية السنوية لقاعدتها العسكرية المرابطة في السواحل البحرينية، والتي كانت تقدر تكاليفها بحوالي 800 مليون دولار أميركي سنويا.

وبحيث لم يسع الوزير الاميركي في تلك اللحظة التي أحرجته، وعكست موقفا يعارض المصالح الاميركية، في البحرين والمنطقة، إلا أن يحشره في زاوية ضيقة ويطرح عليه سؤال غاضب وصعب، عن حجم ثروته الخاصة والبالغة أكثر من 25 مليار دولار أميركي، ظلت مكدسة في خزائنه وخزائن البنوك الاستثمارية الخارجية، من أين جاء بكل هذه الأموال الهائلة؟ وكيف يمكن له التصرف بها؟ وذكره في نفس الوقت بافضال الولايات المتحدة عليه، والسهر على حماية عرشه المترنح أمام العواصف الاحتجاجية الداخلية، والتهديدات الخارجية، التي ظل يتعرض لها النظام في البحرين، على امتداد عقود طويلة، وكيف تصدت الادارات الاميركية المتعاقبة لجميع تلك التحديات الكبيرة، ووفرت الغطاء السميك والواقي لاستمرار الحكم الخليفي وديمومته، إلى هذا الوقت.

وبعد أقل من خمس دقائق من نهاية هذا اللقاء، فارقت روحه الحياة، والغى وليام كوهين، مؤتمرا صحفيا كان مقررا ان يعقده للحديث حول ما دار في جوانب ذلك الاجتماع، حيث أن الحاكم عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، قد مات وفي قلبه غصة والم، ودفن في مقابر الاجداد الخليفيين في الرفاع الغربي، وعلى وجه السرعة، ولم يسير خلف جنازته سوى عدد قليل من أفراد الاسرة الحاكمة والمشيعين المقربين من الحاشية، وعدد من وزراء الحكومة، ولم يكن يحمل معه إلى قبره قرشا واحدا من تلك الأموال، التي جمعت وتراكمت بالمليارات من الدولارات، على حساب معاناة ومآسي الفقراء والضعفاء في البحرين.

ولم يجرأ أحدا حتى الآن أن يفصح عن حقيقة ما دار في جوانب ذلك الاجتماع، سوى القول بأن موت، عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، كان قضاء وقدر، وقد مات موتة طبيعية، واما التفاصيل فإن علمها عند الله.

ومن بعد موته تسلم مقاليد السلطة نجله الأكبر ولي العهد ووزير الدفاع، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، الذي ما لبث أن عقد جلسة استثنائية طارئة في مبنى مجلس الوزراء، وكان قد ترأسها بنفسه، وبحضور عمه رئيس مجلس الوزراء خليفة بن سلمان بن حمد آل خليفة، نعى خلالها وفاة والده الراحل، وقال أمام أعضاء مجلس الوزراء: “اننا في هذا الوقت، نحمل الأمانة لتولي مقاليد الحكم مستمدين العون من الله، وباذلين كل ما في وسعنا لخدمة بلادنا وشعبنا ” وأضاف:”وبالنظر إلى ما عهد الينا والدنا في حياته من ولاية للعهد، فاننا اليوم نحمل الأمانة لتولي مقاليد الحكم، متبعين في ذلك النهج الذي سار عليه الراحل الكبير في خدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته، ونسأل الله التوفيق والسداد”.

وعلى نفس هذا الطريق، والطريق الذي سار عليه جميع الاجداد الفاتحين الاوائل، الذين حكموا البلاد بقوة الحديد والنار، والتفرد بصنع القرار السياسي، شق حاكم البحرين الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، طريقه نحو تشييد كيان (المملكة الخليفية الاولى) المزعومة، الذي كان جميع أجداده الاولين، يحلمون باقامتها على أرض الواقع، ويخلدون بها أسمائهم وتاريخهم، وأطلق من القمقم عنان “مشروعه الاصلاحي” الذي دشنه بـ”انفتاح جزئي” على المجتمع، وتصحيح بعض الخطايا والعيوب المكشوفة، التي وقع فيها عهد والده الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة، وبخاصة في مايتعلق بمسائل انعدام الثقة بين الحكم والمجتمع، والانفتاح على الآخر المختلف، وقضايا حقوق الانسان.

وعبثاً حاول الرجل أن يتجاوز بعض أخطاء وسلبيات العهد الذي مضى، وذلك في بداية عهده الاصلاحي، ولكنه في نهاية الامر، وبمحض ارادته ارتكب نفس تلك الخطايا والعيوب الكثيرة، بل وانه قد مارس أكثر منها فضاعة في مختلف مجالات الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان، فانقلب على مبدأ المشاركة الشعبية، والتعددية السياسية، وتداول السلطة، والحريات المدنية، والصحافة الحرة، وكذلك دستور البلاد العقدي لعام 1973، الذي أصبح بمثابة الحل والربط بين الاسرة الحاكمة والمجتمع، ووافق عليه ممثلي الشعب المنتخبين في البرلمان، وكذلك حاول أن يرفع سقف أية محاولة من جانب قوى المعارضة السياسية للتغيير الحقيقي والجوهري، لدرجة استبعاد حدوث ذلك.

في نفس الوقت الذي أتاح فيه للقوى الموالية له فرصة الظهور للواجهة للتعبير عن تأييدها الأعمى لقيام مشروعه الاصلاحي، وتركيز كل خطاباتها على النحو الذي يسير على أنه يستحق أن ينسب له الفضل في التحول الجديد والسريع واللامع، والنهضة التنموية والاقتصادية والعمرانية، التي سوف تشهدها البحرين، في ظل سياسات “القيادة الرشيدة”.

وحينما تضافرت وتعاظمت جميع جهود التلميع والاشادة بشخصه، خلق الحاكم الجديد لنفسه هالة من العظمة والكبرياء المبالغ فيها بشدة، فبعد أن استعاد لقب صاحب العظمة أمير البلاد، بدلا من لقب الامير المفدى، تحول بعدها الى لقب صاحب الجلالة الملك المعظم، وقائد مسيرة الاصلاح والتطور الشامل والتنمية البشرية والاقتصاد، والحائز على نياشين القائد العسكري الأغر، من المؤسسات العسكرية البريطانية والاميركية، وراح يحث الخطى نحو رفض تبني أية سياسة اصلاحية حقيقية، حين حان وقت العمل الجدي بتفعيل مواد ونصوص مشروع الاصلاح، وتفرد بجميع أدوات صنع القرار، وظل يمنح العطاءات و”المكرمات السامية” الواحدة تلو الأخرى، وكيف ما يشاء ويرغب، وذلك بدلا عن تجسيد وتكريس وتفعيل نصوص الدستور والقوانين والاجراءات، التي يجب أن يمارس فيها صنع السياسة، التي تتلائم مع تحولات وتغيرات ما بعد قيام المشروع الجديد للمملكة الدستورية المنشودة، وهو الأمر الذي قد أثر على طريقة تعاطي الحكم مع المجتمع البحريني برمته، ولذلك فإن الكلام عن قيام دولة برلمانية دستورية، على غرار الدول المتقدمة والمتطورة حول العالم، انما هو لا يتعدى كونه فقط مجرد أوهام وأحلام يقضة، واستغفال عقول الناس، والعودة إلى النقطة القريبة من فرض الهيمنة الفئوية الواحدة، واستخدام القوة الطاغية والممنهجة لفرض ضرورات الأمر الواقع على المجتمع.

” في الحلقة القادمة، الانقلاب على ميثاق العمل الوطني، والدستور، والوثيقة التصالحية مع المجتمع “

هاني الريس

9 كانون الأول/ديسمبر 2020

Loading