أحوال البحرين .. ونبوءة الشيخ الجمري

عندما تغيرت أحوال البحرين بعدما سمي بمرحلة الانفتاح السياسي على المجتمع في العام 2000 وبدأ الانتقال التدريجي من دولة المراقبة الامنية إلى المملكة يحث الخطى، وتم الأعلان حينها عن بداية عهد جديد من الاصلاحات، بقيادة حاكم البلاد الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، وكان من بين تلك القرارات، قرار العفو العام الشامل، الذي شمل عودة المبعدين والمنفيين والمهجرين في المنافي القسرية في مختلف العواصم العربية والعالمية، كنت من بين موجة العائدين الذين أثلجت صدورهم إجراءات وتذابير العفو العام، وكانت حينها البلاد تعيش نشوة فرح لا مثيل لها في تاريخ البحرين الحديث والمعاصر. وكان ينظر إلى تلك الفترة بالذات بأنها كانت تمثل (لحظة إنتصار وتتويج) لسنوات وعقود طويلة مضت، من زمن نضالات شعب البحرين وتضحياته في سبيل الحرية والديمقراطية والسلام والوئام والاستقرار.

وفي ذلك الوقت كنت قد إنشغلت بمتابعة مستجدات الاوضاع بعد عودتي للبلاد من المنفى القسري في الدنمارك، وتجاذب الحديث حولها مع العديد من الزملاء الذين شاركت معهم في النضال، وكذلك الاخوة السياسيين والحقوقيين والاكاديميين والمثقفين في البحرين، والذي كان من بينهم رمز المعارضة وقائدها في سنوات حقبة التسعينيات سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، الذي التقيت به عن طريق الصدفة، عندما كنت في زيارة خاطفة إلى مأتم (أنصار العدالة) في الدراز، حيث كان يشارك هناك في إحدى المناسبات الدينية. و دار بيننا حديث مقتضب حول رؤيته لاوضاع البحرين بعد التحولات الجديدة، وسألت سماحته عن بعض آرائه وتصوراته للمستقبل، بعد أن تنتهي أعراس التغيير التي عاشها الجميع في ذلك الوقت، في ظل ما سمي ب “مشروع الاصلاح”.

وكان جوابه، وهو رجل الدين المعتدل والقائد السياسي المحنك، الذي رجح كفة الاخلاص للشعب والوطن على المعتقد، والذي استطاع بفضل حكمته وتواضعه وتسامحه وتبصره، أن يجمع من حوله كافة الرموز والاضداد في ساحة الحركة الوطنية والاسلامية في البحرين. أنه قد يرى في قرارة نفسه، وبحسب تصوره، أن الاوضاع في البلاد، يمكن أن تكون على المدى البعيد مخيبة لآمال الناس، لان مشروع الاصلاح يبدو أنه كان مرتبك، ولا يمتلك أية أستراتيجية واضحة ونوعية وبعيدة المدى، بقدر ما كان ليس أكثر من مجرد أسير لحظة عاطفية سريعة، ويراد من خلالها حشد التأييد الشعبي العام للنظام الجديد، الذي أراد أن يخرج من عنق الزجاجة فوق كل إعتبار، وأنه إذا لم تكن هناك نوايا حسنة من أجل الاصلاح الحقيقي والجذري، و إرساء الخيارات الجادة والصادقة، التي يمكن أن تضمن مصالح الناس والمصلحة الوطنية العليا، فأن الاوضاع ستظل غامضة ومرتكزة على كف عفريت، و ربما يأتي اليوم الذي تشهد فيه البلاد وضع حساس ومتفجر، وبحدوث مثل هذا التفجير يمكن أن تحدث هناك لا سمح الله فتنة طائفية مخيفة، حيث يسيطر النزاع  والشقاق داخل البنية الاجتماعية على اسس طائفية ومذهبية مقيتة، وتسيطر مسائل القوة والقمع على غيرها من مسائل الحكمة والتبصر والعقل. فاذا أراد النظام الجديد في البلاد السعي لانجاح مشروع الاصلاح وكسب المزيد من الدعم الشعبي، فأن عليه معالجة جميع نقاط الضعف في هيكلية مؤسسات الدولة الرسمية وحل كافة المشاكل الاجتماعية المزمنة، التي عرضت البلاد إلى هزات متكررة، بنوايا صادقة وجدية، وليس بمشاعر الرغبة في الهروب إلى الامام وتخطي المسائل الجوهرية، التي تتطلب المصارحة والمكاشفة وطرح القضايا الشعبية بمفهوم المشاركة، وليس بمفهوم المفاضلة أو التبعية المطلقة للنظام السياسي، الذي قد يرى نفسه بأنه وحده فقط القادر على حل كافة مشاكل الدولة والمجتمع .

وحين إنتهت مواسم المهرجانات الاحتفالية الصاخبة، ومراسم أعياد الاصلاح، وتكشفت أوراق التين، التي كانت قد زينت طريق التحول من دولة المراقبة الامنية الصارمة إلى مملكة، وإنحسرت نشوة ” الانتصار” الكبير على الماضي القمعي المؤلم، بدأت تهتز جوانب الثقة بين سلطة الحكم والمجتمع، بعد أن تعمق الصراع  وتجذر بين مؤسسة السلطة التنفيدية والمعارضة،على موضوع التعديلات الدستورية وملحقاتها، ومن بعدها التحديات الجدية، التي واجهت صدور الدستور الجديد للعام 2002 وتغييب الدستور التعاقدي للعام 1973، وتكرار محاولات تمرير وتغليب القوانين والاجراءات والمراسيم الملكية والمكرمات السخية، على غيرها من النصوص والبنود المكرسة في ميثاق العمل الوطني، التي تحولت بموجبه الدولة إلى المملكة، ومن ثم تطورت بعدها مسائل الجدل و الانتقادات والاعتراضات على توزيع الدوائر الانتخابية على مستوى المجالس البلدية والبرلمان. استمرت تراكمات الاحباطات الشعبية، من كافة النتائج السلبية، التي تمخضت عن سياسات الاصلاح، حتى بلغت مستوى الذروة في أعوام 2007 و 2011 عندما سدت كافة الطرق لاجراء تحولات وطنية على النحو الصحيح والمقبول من الجميع.

أصبح الاستبداد السياسي والامني كأداة تصفية لكل المنجزات والمكتسبات الوطنية العامة والخاصة، التي تحققت في بدايات مشروع الاصلاح، وأصبحت الديمقراطية الدستورية المنشودة فقط مجرد شعار تختبىء ورائها سيطرة شاملة ومطلقة للسلطة والحكم على عمليات صنع القرار السياسي، بحيث لم تعد هذه الديمقراطة الدستورية، بعد تشويه أسسها ومضامينها الحيوية الفعلية، شعارا أساسيا يحتدى به للمشاريع والبرامج الوطنية ذات الطابع الديمقراطي الدستوري والتعددي، ولذلك كان الهاجس الاساسي لدى غالبية المجتمع هو هاجس الخوف والقلق من تحول شعار الديمقراطية الدستورية العصرية، إلى مصادر قوة وقهر وغلبة لمكون إجتماعي محدود يتصرف بمفرده في الساحة على حساب اللاعبين الاخرين وكذلك مختلف مكونات المجتمع البحريني برمته.

من هنا تبدو نبوءة الشيخ الجمري، قد ترجمت في واقع ومجرى الاحداث الجديدة اللاحقة، التي تفجرت شرارتها في العام 2007، وأحداث قضية الحجيرة السورية، حتى بلغت ذروتها القمة في أحداث العام 2011 واستمرار تداعياتها المخيفة والمقلقة، وهو أنه إذا لم تكن هناك أية إصلاحات جوهرية جذرية، تنسي الناس مآسي الماضي المؤلم، وإذا لم يكون هناك توافق جدي وإجماع وطني مشترك، ومشورة في الرأي ومشاركة شعبية حقيقية في صناعة القرار السياسي، وإذا لم يتغلب منطق الحكمة والتعقل والتحرر من قيود الماضي القمعي المؤسف، على شعارات فرض القوة ورفض الآخر، فانه لايمكن التوقع بأن تعود الأمور في البلاد إلى نصابها. ولا يمكن أيضا الاطمئنان إلى أن الجبهة الداخلية سوف تسترد عافيتها وانسجامها ووحدتها المعهودة، التي ظلت متماسكة على إمتداد قرون، ولن يكون هناك أي مشروع سياسي يمكن أن يعول عليه  في مسائل دعم الحريات والتطور والتنمية في ظل الاوضاع الراهنة

فحقيقة الامر أن الشرخ الكبير الذي حدث في البلاد، كان مرده في الاساس إلى كثرة  الانحرافات والترقيعات والبرامج المقننة في مسار الاصلاح، وتجاهل مطالب الرأي الآخر وبخاصة المطلب الجوهري لقضايا الديمقراطية الواقعية وحقوق الانسان، وليست هناك أية قضية أخرى من قضايا الدولة والمجتمع، يمكن الخلاف أو الاختلاف عليها، سوى المطلب الديمقراطي الدستوري، الذي دفعت ثمنه باهظا كواكب من الشهداء والمعتقلين والمبعدين والمنفيين في مختلف عواصم الدول العربية والعالمية، الذين تصوروا بأن الاصلاح سيضمن نهاية سعيدة للاجيال الراهنة واللاحقة، وهو الامر الذي يتوجب على الجميع أن يدعوا إلى قيام جردة حسابية شاملة لتصحيح المسارات الخاطئة التي تسببت في دوامة الازمات المتلاحقة على مستوى الدولة والمجتمع .

واليوم تمر علينا الذكرى الرابعة عشرة، من رحيل هذا الرمز الديني والوطني الأصيل، الذي قاد نضالات الحركة الدستورية المطالبة بالاصلاح الحقيقي والجوهري، في حقبة سنوات التسعينات من القرن الماضي، والتي تميزت جميع مواقفه النضالية بالشجاعة والصبر على كافة المظالم الشديدة، التي تعرض لها وجميع أفراد عائلته، على أيادي جلاوزة النظام السياسي الخليفي، والعمل على توحيد الصف الوطني المشترك، وبحيث أنه لم يفرق بين من هو في الصف الشيعي أو السني أو القومي أو الماركسي، إذ جعل الجميع متساوين مع بعضهم، ولا فرق بينهم في رأيه إلا بالعمل الجاد والحقيقي والصادق والمخلص لقضايا الأمة وقضايا الوطن، رحل في مثل هذا اليوم هذا العالم الجليل والمناضل الوطني الشجاع، إلى جوار به راضيا مرضيا بكل ما قدمه من تضحيات كبيرة، من أجل الشعب والوطن، والتي سوف يظل يذكرها له التاريخ وبحروف من ذهب، وكنا نتمنى لو انه لايزال على قيد الحياة الدنيا، حتى يكون شاهدا بنفسه على كل التوقعات التي خلدت في ذهنه في ذلك الوقت، ويرى جميع المآسي والويلات، التي عصفت بالأمة، وعصفت بالبلاد، من اصرار وتعنت السلطة الخليفية الحاكمة، على رفض التغيير الجذري، وقهر الارادة الشعبية، منذ ذلك الوقت وإلى هذا اليوم .

رحمك الله أيها الشيخ الجمري، وأسكنك فسيح جناته مع الشهداء الخالدين والابرار

هاني الريس

18 كانون الاول/ ديسمبر 2020

Loading