عبدالرحمن النعيمي… مسيرة حافلة بالنضال

عندما أخبرني أحد الأصدقاء من البحرين، بأن المناضل الرمز عبدالرحمن النعيمي، مصاب بوعكة صحية شديدة، استدعت بقاءه في أحد مستشفيات الرباط، حيث كان سيقوم حينها برحلة عمل في المملكة المغربية، استسلمت وقتها للأفكار السوداء وأخذ يستبد بي الخوف من المصير الذي سيواجه هذا الرجل الذي ظل يبدل التضحيات الجسام على مدى سنوات طويلة، من أجل خدمة قضايا وطنه وأمته، ولكنني تنفست بعد ذلك الصعداء عندما تأكد لي أن حالته بقيت مستقرة، وانه يحظى بعناية صحية جيدة، ولكنه على رغم ذلك فقد ظل القلق يساورني، وتمزق أحشائي ذكريات بعيدة المدى، تذكرني بأكثر من عشرين سنة أمضيتها إلى جانب النعيمي، نعمل معا ونناضل معا تحت راية واحدة ومبدأ واحد وخندق واحد في المنافي القسرية، فمنذ ذلك الحين بقينا معا على تفاهم صادق وتواصل مستمر، وما كان يفرق بيننا أي شيء سوى المكان الذي نعيش فيه، فالرجل لم يكن أبدا رجلا عاديا في طموحاته وتفكيره ونضالاته وموهبته، فهو بالنسبة إليّ يأتي بمنزلة الأب والأخ والصديق والمعلم ورفيق النضال، والذي كان طوال ذلك الزمن يبادلني الود والاحترام والمحبة الحقة، ويحاول أن يزرع في نفسي «الأمل» والشجاعة والإقدام والعمل والعطاء والتفاني من أجل خدمة المجتمع البحريني وارتقاء الوطن.

لقد حمل النعيمي، في رصيده السياسي تاريخ نضال طويل وشاق وثابت وأصيل، منذ أن شق طريقه في الانتماء بقوة وبشجاعة في صفوف حركة القوميين العرب، خلال سنوات الستينات من القرن الماضي، إذ كان يتلقى علومه حينها في كلية الهندسة بالجامعة الأميركية في بيروت، وكان ينشط هناك في مختلف الفعاليات السياسية والتظاهرات الطلابية المطالبة بالحرية والديمقراطية والوحدة العربية وتحرير فلسطين، وفي المساهمة في تشكيل نواة تيارات الحركة الوطنية البحرينية، وفي مختلف النضالات المطلبية الشعبية في البحرين، وفي الوقوف إلى جانب ثورة ظفار، وكزعيم للجبهة الشعبية في البحرين، وقائد بارز من قادة الحركة الدستورية، ورمز مهيب من رموز السياسة في البحرين.

فكان لهذا المناضل الرمز، والذي لم يتعب ولم يمل ولم يرتجف من حمل راية النضال الوطني والقومي العربي، والذي ظل يتجول بها وباسمها في مختلف قضايا شعب البحرين ونصرة القضية الفلسطينية، وهي قضية العرب المركزية، موروث مديد ومخزون كبير من الشجاعة والجرأة على الحلم والأمل، وقدرة فائقة على تذليل العقبات وتخطي الصعاب بما يمكن أن يوصف به إلا ربما أولئك الرموز الموهوبة والنادرة في مثل هذا الزمن البالغ الصعوبة.

فمن حيث ما يكون وجودك في أي بلد عربي أو حتى أجنبي وتلتقي هناك بالسياسيين والمناضلين والمثقفين والمفكرين، وتعرف عن نفسك بأنك مواطن بحريني، لابد من أن يخرج عليك أحد هؤلاء ويبادرك بالسؤال: «عما إذا كنت قد تعرف عبدالرحمن النعيمي؟ فإذا ما أجبته بالإيجاب، فإنه يغمرك بالمديح والثناء عليه وعلى أفضاله في خدمة القضية الوطنية البحرينية، إما إذا كانت قد أجبته بالنفي، فإنه يحاول أن يسرد عليك الكثير من أوصاف هذا الرجل ومن مآثره ونضالاته الباسلة.

والذين يعرفون النعيمي، حتى من أولئك الذين يختلفون معه في مسائل الرأي والعقيدة وفي المجال السياسي، لابد لهم من أن يشهدوا له بالمواقف المبدئية والثابتة والنضال الشرس والتواضع والأخلاق الفاضلة والتسامح والاعتدال والكرم والضيافة والنزهة والبساطة التي يعيشها الرجل في الملبس والمسكن وحتى السيارة.

ولقد فتح النعيمي، أبواب منزله مشرعة، في دمشق حيث كان يعيش كل سنوات المنفى القسري، لجميع من كان يقصده من أبناء البحرين على مختلف أطيافهم وألوانهم، وغيرهم من المناضلين والمثقفين والمفكرين العرب أو من قوميات أخرى، للزيارة أو لطلب النصيحة أو المساعدة والعون، فلم يبخل عليهم بشيء مما يستطيع تقديمه لهم.

لعب سلوك النعيمي، الشخصي والسياسي، دورا مهما سعيا لحلحلة الكثير من الشوائب المزمنة التي كانت عالقة في أفكار أوساط اليسار في البحرين، وأثمرت جهوده المضنية في تقريب الكثير من وجهات النظر بين الفصيلين اليساريين (جبهة التحرير الوطني) و (الجبهة الشعبية) اللتين كانتا تعملان في الخارج، خلال سنوات المنفى القسري، حيث كان الرجل يحلم دائما بالوحدة الاندماجية بينهما، أو على الأقل بوجود قنوات مشتركة تؤطر عملهما النضالي، فراح يدعو بشكل كبير لتأسيس لجنة التنسيق بين الجبهتين، والذي تمخض الإعلان عن قيامها في نهاية سنوات الثمانينات من القرن الماضي، وكانت ضمت قيادات الجبهتين في المنفى، والتي صدرت باسمها نشرة إعلامية واحدة هي «نشرة الأمل» بدلا عن نشرتي «الفجر» و «5 مارس» والأولى لجبهة التحرير والثانية للجبهة الشعبية.

وحرصا منه على توطيد وتعزيز العلاقات المشتركة بين جميع فصائل المعارضة البحرينية في الخارج، فقد سعى النعيمي في مطلع العام 1991، لمد الجسور والارتقاء بوتيرة العلاقات غير الحميمية بين فصائل اليسار وفصائل التيارات الإسلامية، فأثمرت جهوده المضنية، عن الانفتاح على الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، وتوطيد العلاقات المشتركة والتحالف السياسي والإعلامي، مع حركة أحرار البحرين الإسلامية، ولاسيما خلال سنوات الانتفاضة الدستورية، حيث كانت تعقد الفعاليات والمؤتمرات الصحافية وإصدار البيانات المشتركة بين لجنة التنسيق (الشعبية والتحرير) وحركة أحرار البحرين.

وفي زمن الصمت، ووعظ السلاطين وتفشي مظاهر الرشوة والفساد والتسلق على أكتاف الآخرين، من أجل الوجاهة واعتلاء الكراسي والمناصب المغرية، قدم عبدالرحمن النعيمي، أمثله رائعة في الصمود والحزم والصلابة والثبات على مواقفه المبدئية، فهو الذي لم يتلوث بالفساد، ولم يغريه بريق الأموال، ولا الوجاهة المزيفة، ولا المساومات، ولا التعويضات، ولا المناصب المبهرة، ولا حتى الجمعية السياسية الذي كان على رأسها وتخلى عن رئاستها طوعيا ليترك المجال للدماء الجديدة ان تنشط وتعمل وتحقق الحلم، فكان كل ما يشد اهتمامه هو أمر واحد فقط الحرية الديمقراطية وسعادة الإنسان في البحرين.

دوره كقائد محنك، وداهية في السياسة، ورمز وطني بامتياز، وفي قدرته على إعداد جيل من المناضلين، وفي مواقفه الثابتة، وفي تكريس التقاليد الصلبة المبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي المؤلفات الكثيرة والمقالات المنشورة في الصحف المحلية والعربية.

حفظ الله عبدالرحمن النعيمي من كل سوء وأعاده سالما معافا إلى وطنه وأهله وأحبته، فلطالما نحتاج نحن لـ «أبوأمل» في أوساطنا قنديلا يضيء دروب الوطن.

Loading