ما بين السلطة والتسلط

يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي، آلان فان «إن ممارسة سلطة بلا رقيب يمكن أن تجعل الحكيم مجنوناً، كما إنها تفعل العكس تماماً، أي أنها تحول المجنون حكيماً».

والسلطة كما هو معروف، هي ظاهرة طبيعية وضرورية لتنظيم الحياة اليومية العامة في المجتمع، وهي تعني في الأصل (العمل على تحقيق نمو الكائن الإنساني وتمدنه وتطوره) ومن غير ممارسة السلطة، تتحول أمور الحياة العامة، إلى دورة عبثية شريرة ومدمرة.

فالسلطة بمفهومها الشامل، السياسي والأخلاقي والإنساني والتربوي، هو السعي إلى تنظيم حياة الدولة من القمة إلى القاعدة وضبطها ورعاية شئونها، وتحقيق مصالح الأفراد والجماعات والتعبير عن الطابع العام للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، وليست تلك السلطة، التي تظل تفرض نفسها ونسقها وقوانينها ودساتيرها على المجتمع.

والسلطة بحسب بيير داكو، تمثل للحاكم المتسلط والمستبد، أمناً داخلياً في أعماق النفس، وشعوراً بالزهو والشموخ والمهابة، وهو في أثناء ممارسته للسلطة يرفض أي حوار أو مناقشة لسيطرته وسطوته، ويطالب الآخرين بالصمت المطبق، والسلطوي هو دائماً عدواني وهو يهاجم خوفاً من أن يهاجم، وينال من الآخرين خوفاً من أن يتعرض لأذاهم وتمردهم، وهذا يعني أن قهر الآخر وإذلاله يمنح المتسلط الشعور بالعظمة وامتلاك القوة، وهو بالتالي عندما يمارس فعالية التسلط والتعسف والقهر، يشعر بأنه قد أنجز عملاً رائعاً ومخلداً إلى أبد الدهر، وللأسف الشديد، يكثر هؤلاء المتسلطون والمستبدون في هذا العصر، عصر التقدم والتطور والانفتاح على الآخر وكفالة الحريات العامة وحقوق الإنسان.

ويرى إريك فروم، أن الشخصية ذات التسلط المطلق، بأنها رغبة الشخص في السيطرة الانفرادية، والهيمنة المطلقة على الآخرين، والشخص السلطوي هو ذلك الذي تسيطر عليه مشاعر الإعجاب بالسلطة، والميل المغامر إلى الخضوع لها، وهو في الوقت نفسه يريد أن يمتلك زمام الأمور في يده، وأن يخضع الآخرين طواعية لمشيئته ورغبته وإرادته.

إن ممارسة السلطة بصورة طبيعية ومنسقة، تتطلب من الذين يمارسونها، أن يمتلكوا الإحساس بالمسئولية والقدرة الفائقة على ممارستها بشكل مدرك وحكيم.

فالحكام الذين يلتزمون مبدأ العدل والإنصاف والمساواة والتسامح، ويحترمون إرادات شعوبهم يعدون دائماً مثالاً رائعاً للشجاعة والافتخار والتقدير والتبجيل، ويكبرون في نظر شعوبهم وتلتف حولهم حشود الجماهير، ويصغرون عندما يخالفون قوانين الشعب، وضرورات المألوف، ويكونون ضحايا الفوضى العارمة والاضطرابات، التي قد تهز أو تطيح بأبراج عروشهم العالية، وقد تكون في بعض الأحيان بصورة كارثية.

ومن هذا المنطلق، يرى كل هؤلاء المفكرون والفلاسفة، أن ممارسة أي سلطة في غياب المكاشفة والمحاسبة وردع الأخطاء، قد تجعل «الحكيم متغطرساً أو مجنوناً» لأنه يظل متوهماً بأنه، أصبح وحده فقط من يستطيع أن يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحاكمهم برغبته ونزوته لا بمشروعية إرادتهم وتقبلهم، وعلى عكس ذلك يمكن أن يتحول المجنون إلى حكيم، عندما تهز كل مشاعره وجوارحه «صحوة الضمير» واليقظة والقيمة الأخلاقية والإنسانية، ويتحرر من كل قيود التجبر والتغطرس والتعسف، ويفرض الإصلاح والتغيير من فوق على الجميع، ولم يجد حرجاً في اعتبار الشعب هو مصدر السلطات جميعاً، لأن إرادة الشعب هي القانون، والقانون هو الذي يجب على كل حاكم أن يكون مخلصاً وحريصاً على اتباعه وتنفيده وخدمته ورعايته.

ولتلك الأسباب، نجد أن جميع الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تواجه الحكومات في العالم، يكون مصدرها، عجز السلطة الحاكمة عن تنفيد وعودها والتزاماتها وتجاهلها لمواد ونصوص الدستور والقوانين والإجراءات واحترام الإرادة الشعبية، واختزال كل هذه الأمور في الشكل القانوني والدستوري للسلطة الحاكمة أو حصرها فقط في تصرف الحاكم الفرد، ومن هنا أخذت تنطلق كل دعوات الشعوب المضطهدة والمسحوقة، لجهة ضرورة وجود القوانين والدساتير، القائمة على فكرة العقد الاجتماعي، والمشاركة الشعبية في صنع قرارات الدولة والمجتمع، وليس في فكرة تمجيد السلطة أو الفرد الحاكم، وتوجيه جميع الجهود نحو غاية مشتركة هي تحقيق النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل، الذي يكفل العدل والمساواة الحقيقية والفعلية بين جميع أفراد المجتمع، ويلغي صورة الفوارق الطبقية، ويحمي جميع المكونات الاجتماعية والأهلية من صنوف التعسف والقهر.

Loading