شبح الشيوعية الرهيب يطارد النظام في بولندا

أيام النظام الشيوعي السابق في بولندا، كانت صور الثائر العالمي أرنستو تشي جيفارا وماركس ولينين وانجلس وستالين ومعهم شعارات المنجل والمطرقة والنجمة الحمراء، رموزا وطنية وعالمية، تملأ البلاد وتشغل الناس في ظل نظام الحزب الأوحد في بولندا (حزب العمال البولندي الموحد الشيوعي) الذي ظل يحكم البلاد طوال حقبة الشيوعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى مرحلة انهيارها في العام 1989، من دون أن يظهر الحكم تعسفا ملموسا ضد الحرية الشخصية، أما اليوم فقد أصبحت كل هذه الرموز، في ظل «نظام الديمقراطية الجديدة» الذي سفّه سلفه النظام الشيوعي، واتهمه بممارسة الدكتاتورية وقمع الحريات، ثم تسلم من بعده سدة الحكم بفضل بقرارات الدعم والمساندة التي اتخذت في الولايات المتحدة الأميركية والغرب ودولة الفاتيكان التي كان يرأسها البابا يوحنا بولس الثاني وهو بولندي الأصل (توفي في 2 أبريل/ نيسان 2005)، ووضعت بولندا (المحررة من دكتاتورية الشيوعية) تحت وصاية واشنطن والعواصم الغربية، أصبحت مجرد تاريخ، بعد قرار الحكومة الأخير بحظر كافة الشعارات التي ترمز إلى الحقبة الشيوعية، على ترابها الوطني، وفرض عقوبة الغرامة المالية أو السجن على المواطنين البولنديين، الذين يرتدون القمصان الحمراء التي تحمل صور الثائر العالمي أرنستو تشي جيفارا وماركس ولينين وانجلس وستالين والشعارات التي تحمل المنجل والمطرقة ودبوس النجمة الحمراء أو غيرها من تراث العهد الشيوعي السابق.

قيل الكثير بعد اتخاذ هذا القرار، الذي ينتهك الحقوق الشخصية للمواطنين البولنديين الذين شاركوا بغالبية إلى جانب «الثورة الشاملة التغييرية»، التي قادتها نقابة التضامن العمالية ورئيسها ليخ فالينسيا، وسقط خلالها شهداء وضحايا كثيرة في التظاهرات التي هزت كافة المدن والمناطق البولندية، وقمعتها مجنزرات ومدافع الجيش البولوني، بعد إعلان الأحكام العرفية، من قبل وزير الدفاع الجنرال يارولسكي، الذي خلف الأمين العام للحزب الشيوعي ورئيس البلاد حينها، ادورد كيرك، في حكومة طوارئ، قبل وصول نقابة التضامن إلى السلطة في العام 1989، وتساءل كثيرون عما إذا كانت «الحكومة الديمقراطية» الراهنة في بولندا، التي تضم بقايا أو بعض بقايا رموز الثورة، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية الحالي ليخ كاشيسكي، والتي اتهمت النظام الشيوعي السابق بالدكتاتورية وانتهاك جميع الحريات، تقبل لنفسها بممارسة شكل من أشكال الانتهاكات التي عارضتها وثارت من أجلها في السابق، وما إذا كانت الولايات المتحدة والغرب، اللذين يحملون لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويهددون الحكومات التي تنتهك حقوق مواطنيها بالحصار الدبلوماسي والاقتصادي وحتى العزلة الدولية، يقبلون أيضا بمثل هذا القرار الذي يخرق الحريات وينتهك حقوق الإنسان.

لا شك أن هذه المسألة مرتبطة بحقد تاريخي للفكر والعقيدة الشيوعية من قبل معتنقي الديانات والمذاهب الأخرى الذين يسيطرون على زمام الأمور في بولندا، والفوضى السياسية والاقتصادية التي يعيشونها بحسب أحد المراقبين للأوضاع في بولندا، الذي وصف الحكومات الديمقراطية المتعاقبة على السلطة، بعد انهيار الشيوعية، بأنها مرتبكة وعاجزة عن تحقيق معظم الوعود التي قطعتها من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية اليومية للمواطنين، على رغم المساعدات المالية الهائلة المقدمة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، المخصصة لإعادة الأعمار وتطوير التجارة والاقتصاد والتعليم والعمل والصحة والتنمية البشرية، ومتخوفة بصورة جدية من عودة الحنين الشعبي إلى ماضي الشيوعية، الذي كان برغم أخطائه الفاضحة في بعض مجالات حقوق الإنسان، يمنح الكثير من الامتيازات والحقوق المشروعة للمواطنين على قدم المساواة، حيث ويوفر لكافة المواطنين فرص العمل والمسكن والتعليم ونشر الثقافة والصحة المجانية، على عكس ما يحصل عليه اليوم المواطن البولندي، من بعض صدقات الدولة وفتات موائدها المالية، بحيث أصبحت البلاد منذ سنوات طويلة مضت بمثابة «خزان هجرة» لملايين البولنديين الباحثين عن الرزق في مختلف العواصم الغربية، كأيادي عاملة رخيصة، وتقدر الإحصاءات البولندية غير الرسمية وجود أكثر من مليون ونصف المليون عامل بولندي في المملكة المتحدة البريطانية وحدها.

والخطير في الأمر كما يرى محللون ومراقبون بولنديون، ليس الإعلان عن هذا القرار الذي ينتهك حرمات الحرية الشخصية في زمن الديمقراطية والحريات، بل في كيفية تعاطي الحكومة البولندية مع تنفيذه على أرض الواقع، بعدما دأبت فئات شبابية بولندية تسخر منه، وتمضي غير مكترثة بالعقوبات التي توعدت بها الحكومة، لأنها تدرك بأن بولندا اليوم ليست بولندا الأمس، فهي الآن تسير في ركب التطور الديمقراطي، وتفرض عليها حدود القوانين الدولية المعنية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تعهدت هي أصلا باحترامها في دستورها الجديد وفي الاتفاقيات والمعاهدات الحقوقية الدولية.

الجميع في بولندا، يبدو أنهم لم يفهموا جيدا مثل هذه التحولات السريعة وغير المبررة، من دعوات شاملة للديمقراطية واحترام الحريات الاجتماعية والثقافية والفكرية والعقائدية، قبل سقوط النظام الشيوعي، إلى طرح أفكار دكتاتورية شوفينية وقرارات تعسفية تلزم بها المواطن البولندي وتعرضه للعقوبة عند مخالفته لها بأية صورة من الصور، هذه مفارقة عجيبة بالفعل في شأن هذا النظام السياسي، الذي مازال يتستر بعباءة الديمقراطية من دون أن يحترم أصولها.

Loading