دروس سياسية وإنسانية في الأنظمة الديمقراطية… المنظومة الاسكندنافية نموذجا (5 – 5)

في الحلقات السابقة تحدثنا عن نماذج دولتين اسكندنافيتين (السويد والدانمارك) وتطرقنا إلى كيفية اتخاذ القرار السياسي والمشاركة الشعبية لاتخاذ هذا القرار، وعمق التجربة الديمقراطية الدستورية في دولة المؤسسات والقانون، وفي ما يلي الحلقة الخامسة والأخيرة من سلسلة الدروس السياسية والإنسانية.

المملكة النرويجية

هي إحدى ممالك الشمال الأوروبي، وتحتل الجزء الغربي من شبه الجزيرة الاسكندنافية، ويحدها بحر الشمال وبحر النرويج وبحر بارتس في الغرب والسويد وفنلندا والاتحاد الروسي في الشرق، ويضاف إلى أراضيها عدد كبير من الجزر الصغيرة المحاذية لسواحلها الشمالية الغربية، ويبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة ومساحة جغرافية تبلغ (32378 كيلومترا مربعا).

وكانت النرويج في ما مضى منذ القرن الثاني قبل الميلاد، عبارة عن ممالك صغيرة متنافرة ومتنازعة في ما بينها، يحكمها ملوك القبائل النرويجية (الفايكيغ) حتى استطاع الملك هارالد شونهارس، توحيد بعضها في العام 872 بعد تغلبه على زعماء هذه القبائل، وفي العام 1030 – 1015، اكتمل توحيد ما تبقى من ممالك البلاد، حيث أصبحت طوال ألف عام بعد ذلك، إحدى القوى العظمى في شمال القارة الأوروبية بفضل تصنيع وتجارة السفن والمحافظة على مختلف المعالم الأثرية الأصيلة.

بين العامين 1340 – 1814، كانت النرويج ضمن دولة موحدة، مع آيسلندا وجزيرة غرينلاند، تحت نفوذ المملكة الدنماركية، ولكنها أعلنت نفسها مملكة مستقلة في (1814-5-14) على إثر تنازل الدنمارك عنها لصالح السويد، بعد خسارة الدنمارك حروب نابليون بونابرت، وبسبب ذلك غزت السويد النرويج وأعلن ملك السويد نفسه ملكا على السويد والنرويج.

وعلى إثر نزاع سياسي عميق، صوّت شعب النرويج في العام 1905 بأغلبية ساحقة من أجل إسقاط الوحدة السويد، وأعلن أمير الدنمارك هاكون السابع نفسه ملكا على الدنمارك والنرويج، وحظي هذا الإعلان بتأييد واسع من قادة الدول الأوروبية التي تضامنت مع شعب النرويج.

وخلال الحرب العالمية الأولى بقيت النرويج، دولة محايدة، ونالت بعد نهاية الحرب في العام 1920 عضوية عصبة الأمم المتحدة، وخلال الحرب العالمية الثانية في العام 1940، احتلت ألمانيا النازية النرويج، وقضت على حكم الملك هاكون السابع، الذي فر إلى المنفى في لندن، ومن هناك أعلن الدعوة للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال النازي.

النظام البرلماني الدستوري

اعتمدت النرويج دستورا حديثا للبلاد، منذ العام 1905، بعد نهاية مرحلة تاريخية قاسية مؤلمة من الحروب والمنازعات وخروقات حقوق الإنسان الذي تعرض لها شعب النرويج إبان الحروب النابليونية والنازية الهتلرية، وفرت له كل الفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية الذي استرشد بها على مدى عقود طويلة مضت، وظلت مصدر التطلع والإلهام والمستقبل الأفضل للأجيال اللاحقة، وتطوير وتحديث دولة القانون والمؤسسات البرلمانية الدستورية.

وبواسطة الحكم الدستوري، ينتخب الشعب النرويجي، برلمان البلاد انتخابا حرا مباشرا من 169 عضوا بموجب نظام التمثيل النسبي، الذي يشارك فيه كل مواطن نرويجي كامل الأهلية (18 سنة) ومدة ولاية البرلمان 4 سنوات، يتولى خلالها الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية العامة زمام السلطة، في ما يعتبر الملك مجرد «رمز الأمة» ولا يحظى بأية صلاحيات سياسية تنفيذية، سوى استقبال زعماء الدول والحكومات وحضور المناسبات الرسمية والتوقيع على مراسيم وقرارات وإجراءات الحكم، وإضافة إلى ذلك توجد هناك انتخابات 437 بلدية موزعة في مختلف مناطق البلاد ينتخب أعضاؤها أيضا كل أربع سنوات، وأهم الأحزاب السياسية المعروفة على الساحة النرويجية ولديها الثقل الأكبر في المعارك الانتخابية البرلمانية والمجالس البلدية، حزب العمل (الحاكم) وحزب المحافظين وحزب التقدم وحزب اليسار الاشتراكي وحزب الشعب المسيحي وحزب المركز والتحالف الانتخابي الحر الحزب الديمقراطي الليبرالي.

الانفتاح على الشعب

أهم ما يميز الحكم الديمقراطي الدستوري، هو الانفتاح والشفافية والمكاشفة والمحاسبة وتعرية الفاسدين وفضحهم أمام المجتمع، ولهذا فإن جميع المناقشات والمداولات داخل البرلمان النرويجي تكون بصورة مفتوحة وعلنية أمام الجميع، وبإمكان كل مواطن أو مقيم في البلاد بوضع شرعي، الاتصال بالسياسيين وممثلي الشعب ومحادثتهم وتوجيه الأسئلة لهم، وفي الوقت نفسه يمارس أعضاء البرلمان ضبط ومراقبة ومكاشفة ومحاسبة الحكومة على أفعالها وفضح أخطاء المسئولين وتعرية قضايا الفساد أمام الرأي العام عبر مختلف وسائل الإعلام.

النظام السياسي

تعود نصوص وبنود الدستور النرويجي الصادر في العام 1814، في غالبيتها في الأساس إلى نصوص الدستور الفرنسي ذات التطلعات التطويرية والتحديثية السياسية والإنسانية، ومع ذلك كانت الطوائف اليسوعية واليهودية ضمن الدستور أقليات غير معترف بها قانونيا، حتى العام 1850، عندما تدهورت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد خلال العام 1884، وأعلن الملك بعد ذلك عن تغيير بعض القوانين والإجراءات التي أدت عمليا إلى تطبيق النظام البرلماني الدستوري على أرض الواقع.

يتمتع الملك هارالد الخامس، رغم سلطته الصورية بشعبية كبيرة واحترام بالغ من الشعب، وقد أصبحت العائلة المالكة النرويجية من نواحٍ عديدة، رمزا للشراكة الحقيقية والوحدة المجتمعية وكل العناصر التي توحد الحكم والمواطنين في النرويج.

الاقتصاد والتوزيع العادل للثروة الوطنية

النرويج هي إحدى دول الشمال الأوروبي الغنية بالموارد الطبيعية والنفطية وصيد الأسماك، ونظرا لحجم وضخامة هذه الموارد، تعتمد النرويج على التوزيع العادل للثروة الوطنية، التي تعتبر واحدة من بين أعلى النسب الاقتصادية في العالم، حيث يتمتع جميع المواطنين من دون تمييز بالنصيب الوافر من تلك الثروة، إضافة إلى كل الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية المجانية، وتعتبر حقول الشمال للنفط والغاز المصدر الأساسي للاقتصاد النرويجي، بالإضافة إلى الصناعات التحويلية والنقل البحري وصيد الأسماك والثروة الزراعية والحيوانية التي يعيش عليها نحو خُمس السكان، وبذلك تفتخر النرويج بأنها أفضل دولة في العالم من حيث مستوى المعيشة اليومية للفرد.

السياسة التربوية والتعليمية

من حق كل مواطن في النرويج (الأطفال والشباب) وجميع المقيمين في البلاد، التمتع بالتربية والتعليم والتدريب، بصرف النظر عن اللون والجنس والحالة الاجتماعية والخلفية الثقافية والدينية، ويتم تقديم التعليم بشكل مجاني في مختلف المراحل الدراسية حتى المؤهلات الجامعية العليا، وقد سيطرت الإصلاحات التربوية والتعليمية الجديدة على مختلف مناهج الدراسة في المدارس والجامعات والمعاهد العليا، وكانت تهدف بصورة واسعة إلى إقامة نظام تربوي مرن يتيح الفرص للكفاءات ويعد إلى بلوغ مجتمع متطور باستمرار، وتعد موازنة التعليم في النرويج من بين أكبر موازنات الدول وتعادل 7.8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، يذهب 7 في المئة إلى الصحة و8.2 في المئة للتقاعد ورعاية العجزة، و1.9 في المئة تصرف على الشرطة والجيش والعتاد الحربي، وتتحكم الدولة النرويجية بقطاعات عدة استراتيجية كالنفط حيث تعتبر واحدة من أكبر الدول المنتجة للنفط في القارة الأوروبية، والثالثة من حيث التصدير عالميا بعد السعودية والاتحاد الروسي.

والنرويج، هي ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، حيث رفض الشعب النرويجي، من خلال التصويت العام المباشر، الانضمام إلى الاتحاد، ولكنها تتمتع بالعضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتتبع النرويج بشكل عام سياسة معتدلة، ومشاركة في حل النزاعات والصراعات الدولية، كالصراع العربي – الصهيوني، حيث تم على أراضيها في العام 1993 توقيع اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين

Loading