أوباما المنتصر… العبرة في النهاية

وصف كثيرون فوز السنتور باراك أوباما، بأنه (الانتصار الذي يمثل خيار التغيير في أميركا)، وأن الفوز كان بمثابة تصويت شعبي ضد سياسات الحزب الجمهوري المحافظة والمتغطرسة التي عفا عليها الزمن، بما فيها سياسة الضرائب الكبيرة التي أرهقت كاهل المجتمع الأميركي برمته خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة في وول ستريت، ما أسفر عن سخط وإحباط الناخب الأميركي وانصرافه نحو دعاة التجديد والتغيير في كل شيء. أصبحت أميركا بعد تعثرها الاقتصادي وحروبها المستمرة على ما يسمى الإرهاب الدولي واحتلالها أفغانستان والعراق وتهديداتها الصارخة لإيران وسورية، بحاجة الى نهج سياسي جديد يكون مرتكزا على إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية وإنسانية نحو الأفضل بدلا من الاستمرار في سباق التسلح وشن الحروب واستعداء الآخرين وتبذير الاقتصاد وهدر الطاقات.

لقد كان واضحا منذ بداية الحملة الانتخابية الذي حشد لها السناتور باراك أوباما وحزبه الديمقراطي كل الطاقات والإمكانات المادية والمعنوية من أجل تحقيق انتصار كاسح على الجمهوريين، اتساع الشعور المعادي للحزب الجمهوري في معظم الولايات الأميركية بما في ذلك عدد من الولايات المحسوبة تاريخيا على الجمهوريين، بعد أن كان الحزب في انتخابات السنوات المنصرمة، يمسك بخيوط مستقبل البلاد، بسبب توجهاته المحافظة وشعاراته المدافعة عن الأمة في مواجهة (الإرهاب والقاعدة وبن لادن) حيث جذبت كل هذه الشعارات اهتمام الناخب الأميركي في ذلك الوقت، قبل أن تتلاشى تدريجيا خلال السنوات الأخيرة من حكم الحزب، بعد أن غرقت الولايات المتحدة الأميركية خارج حدودها وتخلف الحزب عن تجديد نفسه ومسايرة كل التطورات والتغيرات المحلية والعالمية الجديدة، حتى أدت الى خسارته في الكونغرس قبل عامين، وصولا الى فقدانه الأكثرية في مجلسي الكونغرس وسقوط إدارته الفاشلة بقيادة الرئيس جورج بوش، في الانتخابات الأخيرة في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، حيث حقق الديمقراطيون بقيادة الرئيس المنتخب باراك أوباما سيطرة مطلقة للمرة الأولى منذ العام 1968 على البيت الأبيض والكونغرس الأميركي.

لقد رفع السناتور أوباما، في بداية حملته الانتخابية شعار (تمثيل التغيير وحماية الطبقات الضعيفة والمهمشة في المجتمع، وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى، ومعالجة أسباب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة الأميركية والعالم، وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية للأميركيين، والحديث عن حقوق الإنسان، والدعوة إلى سحب القوات الأميركية من العراق في فترة زمنية قريبة، وإطلاق الحوار مع إيران من أجل معالجة ملفها النووي، والتشديد على مواجهة زعيم تنظيم القاعدة اسأمه بن لادن وتتويج الانتصار في أفغانستان، حيث كان ذلك الهدف الأساس للإدارة الأميركية الجديدة.

ووفقا لكل هذه الشعارات والمعطيات الجديدة التي رفعها الديمقراطيون في برنامجهم الانتخابي، ظل الأميركيون بشكل عام يدعمون السناتور أوباما، وخصوصا الشباب والسود والملونين والطبقات الفقيرة، ليس بسبب لون بشرته، حيث ظل السود يعانون التمييز والعنصرية المفرطة على مدى عقود طويلة، بل بوصفه الرجل الذي يرجح أن يمسك بعملية التغيير نحو الأفضل أكثر من غيره من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة الأميركية، وأن يجعل من الولايات المتحدة الأميركية نفسها على مدى السنوات الأربع المقبلة من حكم الديمقراطيين، أن تركز بشكل مباشر على مختلف قضايا النمو الاقتصادي وخفض الضرائب على الضعفاء ومساعدة الطبقة الوسطى والفقيرة، أكثر من التركيز على مسائل الدفاع والأمن وسباق التسلح. وغالبية الأميركيين والكثير من الشعوب الأخرى باتوا يتعاملون مع الرئيس المنتخب باراك أوباما كما لو انه الرجل المنقذ، الذي يمكن التعويل عليه والوثوق به لإخراج الولايات المتحدة الأميركية من كل أزماتها الداخلية والخارجية وإنقاذ العالم من مخاطر الحروب والمجاعات التي أخذت تفتك بمناطق كثيرة من حوله.

ولكن على رغم كل ما قيل في حق الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية، من أقوال صنعت منه (الفارس الأسود، الجديد والمنقذ)، يتفق الكثير من الخبراء والمراقبين حول الرأي القائل، بأن الرئيس أوباما، سيواجه تحديات بالغة وخطيرة منذ بداية مشواره الرئاسي قد تفرض عليه الوفاء بكافة الوعود التي قطعها على نفسه أمام ملايين الأميركيين، من السود والبيض الذين وقفوا الى جانبه وأوصلوه بأصواتهم الانتخابية إلى سدة البيت الأبيض، ولن يكون باستطاعته تحقيق كل ما وعد به بسهولة.

منذ بداية حملته الانتخابية التي اعتبرت الأقوى والأبرز والأكثر كلفة ومشاركة شعبية لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وعد بأنه سيظل متمسكا بشعار التجديد الذي سيغير وجه أميركا داخليا وعلى المستوى الدولي، ولكن وجد المراقبون، انه حتى قبل أن يظفر بالنصر ويصل الى سدة البيت الأبيض كان مشوشا ومضطربا في سلوكه نحو تحقيق تلك الأهداف، فهو لم يستطع بأي حال من الأحوال حتى لو أراد ذلك، أن يتخطى ما هو واقع ومحتوم في قرارات المؤسسة السياسية والاقتصادية الأميركية، فقد أعلن بأن في مقدوره المضي قدما بمساعدة الضعفاء والمعوزين من خلال إحياء برنامج الرعاية الاجتماعية والصحية للأميركيين، غير أنه وافق من غير تردد على برنامج الإنعاش الاقتصادي الذي تقدمت بها إدارة الرئيس جورج بوش لمعالجة الأزمة المالية المستفحلة. وأبدى حماسا مفرطا تجاه الدعوة الى الحوار مع الجمهورية الإيرانية الإسلامية بخصوص برنامجها النووي، لكنه على رغم ذلك ظل ممسكا بخيار القوة العسكرية في وجه (العربدة الإيرانية) والعمل على إخراج القوات الأميركية من العراق في غضون عام ونيف من الزمن، لكن بعض المراقبين مازالوا يشككون في قدرته على تحقيق ذلك الأمر بسبب تعقيد الأوضاع ومخاطرها في ذلك البلد المضطرب، والتشديد على أن أفغانستان البلد الذي سيشكل خط المواجهة الأول لدى الإدارة الأميركية الجديدة، تحول الى اللجوء للإيرانيين بهدف المشاركة معها لضبط الأوضاع وتحسينها في أفغانستان، والتأكيد على متابعة معركة الحريات المدنية وتحقيق المصالحة والشراكة الحقيقية بين السود والبيض في الولايات المتحدة الأميركية، بعد مرحلة عبودية وصراع عنصري استمر طيلة حقبة تاريخية دامت قرنين من الزمن. والملاحظ أنه نأى بنفسه حتى بعد تحقيق الفوز، عن الإشارة بكلمة واحدة في خطاب النصر، الذي أعلنه في حديقة ولاية شيكاغو أمام أكثر من ربع مليون مواطن أميركي عن خلفيته العرقية، حيث كان يصف نفسه دائما بأنه كان من نتاج حقبة الظلم الذي عاشها السود والملونون والطبقات الفقيرة، وطالب بمحوها الأجداد والأحفاد خلال حقبة الستينيات من القرن الماضي. وتجاهل رواد الحركة التوحيدية المطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في السياسة والاقتصاد في البلاد، فلم يذكر شيئا عن الحلم، الذي أطلقه داعية الحقوق المدنية في أميركا الراحل مارتن لوثر كينغ، بالدعوة الى اللا عنف والمساواة والعدل وإعادة توزيع الثروة ونبذ التمييز العنصري والدفاع عن الفقراء وحقوق الإنسان، ولا عن المناضلة الراحلة روزا باركس، الخياطة البسيطة التي شاركت في صناعة تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بتمردها على القواعد المألوفة التي كانت تفرض فرضا على السود والملونين في أميركا، عندما رفضت التخلي عن مقعدها في حافلة عامة لنقل الركاب، عندما طلب منها رجل أبيض ذلك، وأقامت الدنيا ولم تقعدها في معظم الولايات الأميركية التي شهدت ثورة السود والملونين ضد الظلم والتمييز العنصري البغيض. ومن بعدها بنحو أربع سنوات فعلت السيدة الأميركية السوداء سيما رابينوفيتيش، الموقف نفسه عندما رفضت التنازل عن مقعدها في إحدى الحافلات لرجل يهودي أراد أن يجلس بجوار رفاقه اليهود لترديد صلواتهم وأحاديثهم الدينية، وتحول رفضها هذا الى قضية عامة شغلت الرأي العام الأميركي وأسفرت عنها ثورة عارمة بين مجتمع السود واليهود في ولاية نيويورك التي تضم وحدها نصف عدد اليهود في أميركا، وتعد ثاني أكبر تجمع يهودي في العالم بعد «إسرائيل».

ربما كان أوباما – بحسب بعض المراقبين – يود أن ينسب له الفضل الأول والأخير في هده العملية التغييرية، وكان قد وعد بوضع حلول إيجابية تنهي الصراعات المزمنة بين العرب و «إسرائيل» وتعطي القضية الفلسطينية دفعا مؤثرا نحو الحل وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ولكنه سرعان ما أظهر من دون شك مواقفه الثابتة من السياسات الإسرائيلية العدوانية تجاه العرب وقضيتهم المركزية فلسطين، فسعى مباشرة بعد إعلان النصر، الى تعيين صديقه الإسرائيلي والعميل السابق في جهاز الموساد عمانوئيل راحم،الذي ظل اسمه مغمورا منذ نهاية عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، حيث كان أحد مستشاريه، ليقفز به الى الصفوف الأمامية، في تنسيق وتسيير أمور المرحلة الجديدة في البيت الأبيض.

وعلى رغم كل ذلك لم يستبعد المراقبون، أن تحدث هناك بعض التغييرات الايجابية البسيطة، بحكم تفعيل بعض التعهدات للشعب الأميركي، ولكنهم في الوقت نفسه يصرون بالقول، على أن القادم الجديد الى البيت الأبيض باراك أوباما، لن يستطيع في كل الأحوال، التحرر من قيود المؤسسة السياسية والاقتصادية والعسكرية الأميركية التي مازالت تهدد العالم بالقوة الاقتصادية العالية والآلة العسكرية الغاشمة، وهذا هو حال كل الرؤساء في أميركا، ولكن حتى الآن يجب أن ينتظر الجميع ما الذي سيؤول إليه مصير الوعود التي قطعها أوباما على نفسه أمام شعبه وشعوب العالم، من أجل ترشيد الاقتصاد وتحريره من سلطة الشركات الكبرى والتوزيع العادل للثروة، وتحسين العلاقات على المستوى الخارجي ومحاولات منع انتشار الحروب، ولكن كل شيء يمكن توقعه، وتبقى العبرة في النهاية.

Loading