«أوروبا 2008» موحدون ضد العنصرية

يبدو أن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا) الذي انشغل أخيرا بتنظيم بطولة كأس الأمم الأوروبية (يورو 2008) التي أقيمت على ملاعب سويسرا والنمسا قد بدأ يشعر ببالغ القلق من تزايد مظاهر العنصرية في الكثير من المحافل الرياضية الإقليمية والقارية مع ارتفاع وتيرة الوجه العنصري في غالبية دول القارة الأوروبية. ومورست العنصرية ضد الرياضيين والفرق الرياضية في أكثر من مناسبة، وأدت إلى انتهاك حقوق ومشاعر الآخر، وحدوث مصادمات عنيفة أحيانا، في بعض المنافسات المحلية والقارية، يرفضها الواقع المثالي والأخلاقي والإنساني الذي كرسته المثل العليا للنشاط الرياضي.

وبات واضحا أن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، قد رمى بكل ثقله من أجل تقنين البرامج العملية والإجراءات الرادعة للحد من توسع وانتشار مظاهر العنصرية المقيتة من دون رادع في معظم ملاعب كرة القدم الأوروبية، والتي عكرت بذورها صفو بعض البطولات الأوروبية خلال السنوات الماضية وكادت أن تحرم اللاعب والمشاهد متعة الفن الكروي الرائع والروح الرياضية الأصيلة. ففي هذا المجال شدد الاتحاد على ضرورة، احترام اللاعبين والجمهور، والمثل العليا للرياضة المؤسسة على قيم الأخلاق والإخاء والتسامح ونبذ التعصب والفتنة وأشكال التمييز العنصري، وهدد باتخاذ إجراءات صارمة في حق من يمارس ذلك، ومن موقع المسئولية أوصى النجم الرياضي الفرنسي ورئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ميشال بلاتيني في شهر أبريل/ نيسان من العام 2008، بأن يوقف الحكم للمباراة التي يديرها فورا في حال حدوث أي تصرف عنصري في الملعب. وأضاف بلاتيني «إن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم سيقاوم بشدة كل الممارسات من خلال اعداد البرامج التطويرية للتخفيف من حدوث مثل هذه المظاهر العنصرية، وانه ابتداء من الدور نصف النهائي للبطولة الأوروبية، سيحمل قادة الفرق المشاركة على شاراتهم شعار «موحدون ضد العنصرية»، وسيقرأ كل واحد منهم قبل ركلة البداية اعلانا معاديا للعنصرية مباشرة في الهواء الطلق».

وكان الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، قد بدأ في العام 2006، بوضع إجراءات وقواعد جديدة من شأنها معاقبة اللاعبين الذين يدلون بتصريحات عنصرية، وذلك بإيقافهم خمس مباريات، بدلا من ثلاث الجاري تنفيذها حاليا، ضد أي لاعب يخدش مشاعر شخص آخر بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو الدين. وأما الأندية التي يتورط جمهورها في تصرفات عنصرية، فسيعاقب بغرامة مقدارها 19 ألف يورو وبحد أدنى، وإذا ما تمت الانتهاكات بصورة أوسع فإن الاتحاد سيصدر عقوبة مضاعفة قد تؤدي إلى اللعب من دون جمهور، وحذر الاتحاد من أن أية وسيلة إعلامية متطرفة ستتخذ ضدها إجراءات إلغاء نقاط المباراة أو الاستبعاد من المنافسة.

ومن الواضح تماما أن المسئولين في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، كانوا مدركين لخطورة تزايد مظاهر العنصرية في ملاعب الكرة الأوروبية في الوقت الراهن، مع استمرار تطعيم الأندية والمنتخبات الكروية الوطنية باللاعبين السود والملونين، وتصاعد حمى العنصرية ومعاداة الأجناس الأخرى في غالبية دول القارة الأوروبية، ولذلك فهم اليوم يعملون بكل قوة على درء مثل هذه المخاطر بوضع القواعد الصارمة والحيلولة من دون انتشارها في الملاعب.

فتاريخ الرياضة، منذ عدة عقود، شهد حالات كثيرة من العنصرية مورست ضد الرياضيين في البطولات الرياضية المختلفة أدت إلى زرع الفتن واضطهاد إنسانية الإنسان بسبب لونه أو جنسه أو عرقه أو معتقداته الدينية، بدلا من أن تزرع بذور الصداقة والمحبة والإخاء والتسامح. فظهرت هذه النزعة العنصرية قوية علنا في عهود ماضية، فقتلت الروح الرياضية العليا التي جرى الافتخار بها في الرياضة وانتهكت العهود والمواثيق الاولمبية الدولية، فلم تبقَ منها سوى شعاراتها الفارغة الرنانة.

ففي العام 1932 كلفت اللجنة الأولمبية برلين باستضافة الألعاب قبيل وصول أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا، الرجل الذي التزم باحترام مبادئ الميثاق الاولمبي المناهض للتمييز العنصري، هذا الالتزام الذي وعد به هتلر رسميا، كان يقضي بالسماح لليهود الألمان بالمشاركة ضمن الفرق الرياضية الألمانية، ولكنه عاد في زمن الألعاب في 1936 وتراجع عن وعده وتعهده باحترام هذا الميثاق، حينما اتخذ إجراءات لمنع اليهود من التدريب في الملاعب الألمانية وبالتالي عدم مشاركتهم في الاولمبياد.

ثم امتنع هتلر عن مصافحة الزنجي الأميركي جيمس وينس بطل ألعاب القوى صاحب الميدالية الذهبية في الاولمبياد، والذي كان يرتب بحسب العقلية الألمانية النازية في مرتبة أدنى من الإنسان الألماني الآري الأبيض المتفوق على البشر. وهو مفهوم عنصري كرسته بقوة نظرية «الجيو بوليتكا» العنصرية الشوفينية التي لاقت رواجا حكوميا وشعبيا واسع النطاق في ألمانيا ذلك الوقت، حيث كانت الشبيبة النازية والمنظمات الرياضية الألمانية يسخرون جميعا من هذه الألعاب ويحتقرونها كونها منافسة غير متكافئة بين أناس آريين عظماء وأناس آخرين ضعفاء لا يستحقون البقاء على وجه الأرض. وصفت صحيفة «دير شتومر» الألمانية النازية اولمبياد برلين على أنها «احتفال مغمور» يقوم عليه اليهود لترويج مشروعاتهم وأهدافهم عن طريق الرياضة، ولذلك قرر هتلر مواجهتها واستخدام الاولمبياد كأداة دعائية وإعلامية لمشروعه القومي العنصري الشوفيني، وليظهر التفوق النازي العرقي والتكنولوجي بأنه الأفضل والأحسن في الكون برمته.

وفي اولمبياد مدينة ميونيخ الألمانية أيضا في العام 1972، هددت البلدان الإفريقية المشاركة في الألعاب بإعلان انسحابها قبل بداية المسابقة في حال عدم طرد روديسيا العنصرية (جنوب إفريقيا الحالية) من المشاركة في الاولمبياد بسبب سياساتها العنصرية، وبموجب الميثاق الاولمبي الذي يحظر الممارسات العنصرية، قامت اللجنة الاولمبية الدولية بسحب المشاركة من روديسيا.

وفي إحدى مباريات كرة القدم بين بريطانيا وايرلندا، شهد ملعب كرة القدم في لاند سدوان في دبلن مواجهة دامية وصفت بأنها إحدى مظاهر العنصرية بين مؤيدي البلدين وقد اتسمت المباراة بحقد قومي وعنصري، عبرت عن نفسها بتوجيه المشاعر العنصرية ضمن الأجناس غير البيضاء في أوروبا. في زمن يفترض أن تحترم فيه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي مباراة كرة قدم أقيمت بين فريقي ويست هام وميلوك في لندن، ظهرت هناك مجموعة عنصرية كانت تطلق على نفسها اسم «تشيلسي» أحد الأحياء الراقية في جنوب لندن، تنشر الفوضى والرعب في نفوس الجماهير، وحينها قام أفراد منظمة سياسية عنصرية يطلق عليها اسم «المعركة 18» في انجلترا، بتوزيع بطاقات صغيرة في ملعب ويستهام كتب عليها عبارات عنصرية تقول: «لا للسود، لا للهنود والباكستانيين في شرق لندن», وفي منشور آخر وزعته هذه المنظمة، طالبت فيه بترحيل الملونين على وجه السرعة إلى إفريقيا وآسيا ومناطق الخليج العربية احياء أو أمواتاَ.

وفي إيطاليا فرض الاتحاد الايطالي لكرة القدم (15 مارس/ آذار 2005) غرامة مالية قدرها عشرة آلاف يورو، على اللاعب الإيطالي دي كانيو وفريقه لاتسيو، بسبب أداء هذا اللاعب التحية النازية خلال مباراة فريقه مع نادي روما في الدوري الايطالي، بعد اكتشاف هيئة التحكيم انه قد أدى التحية المميزة للنازيين بعد احراز الهدف الأول لفريقه في مرمى روما.

وخلال بطولة كأس العالم لكرة القدم الاخيرة في ألمانيا، قال الاتحاد الفرنسي لكرة القدم إن فريقه تعرض لانتهاكات عنصرية من مشجعي الفريق الوطني الاسباني، وفي اسبانيا نفسها تعرض المواطن الكاميروني الاسود صموئيل ايتوو لاعب نادي برشلونة خلال الدوري المحلي في الموسم الماضي إلى انتهاكات عنصرية من مشجعي نادي ريال سرقسطة ونادي ريسنج سانتذر دفع الناديين ثمنها غرامات مالية كبيرة.

وانطلاقا من كل هذه الأمور السلبية الخطيرة التي تنتهك حقوق الإنسان في مجال الرياضة، يكون من أبرز واجبات الاتحادات الرياضية في كل العالم نشر ثقافة السلم والإخاء والتسامح بين الشعوب والأمم وتطبيق الإجراءات الضرورية اللازمة على المخالفين للقوانين والمواثيق الرياضية الدولية، وأن يكون الكفاح ضد العنصرية المقيتة منطلقا في واقع الحضارة الإنسانية الجديدة في كل المحافل الرياضية العالمية.

Loading