ربحوا الحرب وخسروا السلام

كتب الصحافي بول هوبي في صحيفة «برلنسكه تيذن» الدنماركية قبل سبع سنوات يقول فيه يبدو ان على البريطانيين ان يأخذوا بمشورة باسيل فاولتوس الرجل الذي صار يدافع عن الحريات ويرفع شعار التسامح ونسيان ماضي الحروب المؤلمة التي دمرت وأزهقت ارواح الملايين من البشر في اوروبا وغيرها من بلدان العالم، ونصح اصدقاءه المقربين بان ينسوا ماضي الحروب.

لكن هذا الشعار الاخلاقي والانساني الذي اطلقة باسيل فاولتوس لنسيان الحرب وأهوالها لم يعجب المواطنيين البريطانيين بل اصابهم في مقتل لانه ربما كان يتعسر عليهم قبول التسامح ارضاء لغرورهم وافتخارهم بالقومية البريطانية.

وفي ذلك الوقت بالذات نشرت مجلة «تي. سيون» اشهر المجلات في البلاد قصة قصيرة تم خلالها تشبيه عضوية الاتحاد النقدي الاوروبي اليورو بالتعاون مع النازيين الألمان.

ونشرت القصة تحت عنوان شعب واحد، رايخ واحد، يورو واحد. وفي موضع آخر من القصة كان باستطاعة المرء ان يقرأ بان الحكومة الألمانية التي حاولت بكل قوة ان تمحو آثار النازية الهتلرية املا في قيادة اقتصاد القارة الاوروبية لم تكن في وقت من الاوقات بمثل هذا السوء من نظام حكم ادولف هتلر.

وفي السياق نفسه نشرت صحيفة حزب المحافظين «ديلي تليغراف» قصة عن زوجين المانيين قاما بشراء بيت في قرية بجنوب بريطانيا، ولكنهما لم يستطيعا التعايش مع جيرانهما البريطانيين فالجيران وجدوا في المكان صورة لمشاهد مرعبة حول الموت والدمار اللذين سببتهما الحرب الجوية بين بريطانيا والمانيا النازية في العام 1942.

في احدى التصريحات الملفتة لوزير الثقافة الألماني الاسبق سيكايل ناومان قال هناك دولة وحيدة في العالم قررت ان تعمل من الحرب العالمية الثانية مركزا روحيا لشعورها القومي الذاتي وفخرها بنفسها، وكان يعني بذلك المملكة المتحدة البريطانية. وأضاف ان «الحرب لاتزال تستحوذ على افكاركم ولابد ان تتخلصوا من هذا الكابوس».

تصريح الوزير الألماني ولد بالطبع صدى واسعا في نفوس الألمان فليس بوسع المسئولين الألمان ان يخرجوا كل يوم بتصريح لينتقدوا البريطانيين، ولكن يكتفي الألمان بالتحلي بالصبر وينتظرون ظهور أية فضيحة جديدة على شاكلة جنون البقر او اية خسارة رياضية مع الألمان لكي يشفوا بها غليلهم.

في ألمانيا يعتبر الثأر عبارة عن طبق طعام يفضل التهامة باردا، هذا ماعبر عنه الصحافي روجريويز في مجلة التايمز البريطانية، ولكن تصريح وزير الثقافة الألماني قد دفع بالبريطانيين للبحث في الذات، وهم يسألون هل تستحوذ الحرب فعلا على عقولنا؟

في احدى المرات عرض التلفزيون البريطاني برنامجا مطولا عن الحرب ظهرت فيه ثلاثة أفلام حول الحرب العالمية الثانية في يوم واحد، ومازاد الطين بلة ظهور برنامج وثائقي يصور اكتشاف البريطانيين للشفرات الألمانية ودراما الحرب التي طحنت الاخضر واليابس في اوروبا.

لماذا علينا ان نشاهد كل تلك الافلام المؤلمة عن الحرب، يسأل جوردن سميث من جامعة لندن قائلا: اعتقد ان هناك شيئا ينبع اصلا من الشعور المتعالي يتم الآن تغطيتة بعقدة نقص.

نحن لايهمنا ما اذا كان الاقتصاد الألماني قويا ام لا؟

وذلك تحديدا مايمكن ان يفسر الخوف الألماني، فمن الممكن ان يكون البريطانيون قد ربحوا الحرب ولكنهم خسروا السلام.

فالامبراطورية البريطانية التي لاتغيب عنها الشمس تشتتت وخسرت كل مستعمراتها تقريبا وأصبح اقتصادها مريضا، بل ومن اضعف اقتصادات اوروبا الغربية بينما خرجت ألمانيا من القمقم لتبعث بعد الحرب من جديد تاركة وراءها صورة الألماني التاريخي النازي والرايخ التالث وجنرالات الامبراطورية الألمانية بعد بسمارك الذين كانوا يعتقدون ان المهمة الرئيسية للامبراطورية هي الدخول في الحرب والقتال. فالألماني اليوم وبكل عزيمة يستطيع ان يحقق مايريد في المجال الاقتصادي من دون الحاجة الى الحرب وسفك الدماء.

وعلى كل حال فان ألمانيا التي استطاعت ان تهزم الشيوعية في القسم الشرقي، وتزيل جدار برلين العملاق من دون الحاجة الى سفك الدم، ستكون قادرة على مواجهة التحديات والتغلب عليها في الوقت الذي تعيش فيه استقرارا يوفر لها مواصلة الاستمرار في تحقيق معدلات النمو الاقتصادي السريع، على عكس بريطانيا التى لازالت تتخبط في مشروعاتها الاوروبية وتعاني من التضخم وتسير خلف الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى رغم توقعات وتصورات بعض القادة الاوربيين بان ألمانيا الجديدة الموحدة ستمثل خطرا رئيسيا محتملا على الاستقرار الاوروبي، فان الألمان بقوا يرفضون بقوة انهم قد يسعون للهيمنة على اوروبا ويصرون ويؤكدون على عدم احياء العدوانية النازية التي شوهت صورة البلاد بسبب التعصب القومي وروح التوسع التي افرزتها في تلك الحقبة السيئة. وهو الأمر الذي يدحض صراحة ما قالته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر في مؤتمر مصغر عن الوحدة الالمانية بان ألمانيا سوف تمد ذراعها الطويلة في اوروبا. وتساءلت عن مدى الوقت الذي يستغرق قبل ان تتحول قوة ألمانيا الاقتصادية الى قوة سياسية وبالتالي ستكون ألمانيا قد ربحت الحرب العالمية الثانية، لآن مالم يستطيع الألمان تحقيقة في الحرب حققوه عن طريق الاختراق الاقتصادي الهائل.

لقد خاطب وزير الثقافة الألماني شعب ألمانيا الجديدة الموحدة بالقول إنكم لاتدركون كم هو مهين للناس الذين كرسوا حياتهم لإعادة بناء الدولة الألمانية، والذين يكرهون النازية من قلوبهم ولكن البريطانيين لايقدرون ذلك ويبدو أنهم بصورة عامة لايستطيعون التفكير بألمانيا من دون التفكير بالحرب.

ويضيف الوزير انظروا الى ما كان يتعرض اليه الرياضيون الألمان من سباب واهانات بالغة من قبل المشجعين البريطانيين عندما تلعب بريطانيا ضد ألمانيا، وان الجمهور البريطاني يردد شعارات كثيرة من فيلم الهروب الكبير، ومن احد هذه الشعارات التي يرددونها دائما: حربان عالميتان وكأس عالمية واحدة. ومازاد الطين بلة ان يرى الوزير ناومان شعار شعب واحد، رايخ واحد، ويورو واحد.

ولكن على رغم مرور عقود طويلة على نهاية الحرب، وبلوغ عصر جديد ومشرق للبشرية، لم يكن في هذه الحرب ما يستحق الذكر، لكن يبدو ان البريطانيين وحدهم فقط من يتذكرونها. فلماذا لايتوقفون عن ذكرها في يوم ما؟

 

Loading