الاختلاف بين الممالك

تناقلت وكالات الأنباء الفرنسية والعالمية أخيرا الاتهامات الموجهة من قبل القضاء الفرنسي ضد الرئيس السابق جاك شيراك بخصوص فضائح فساد، واختلاس أموال بصورة غير قانونية من خزينة بلدية باريس عندما كان عمدة للبلدية. القضاء أعلن عزمه مساءلة شيراك ومحاسبته، إذا ما ثبت فعلا صحة الاتهامات الموجهة ضده.

وقد أبدى الرئيس السابق رحابة صدر تجاه هذه القضية، ووعد بالتعاون مع القضاء لكشف الحقائق، وهذا يفسر بصورة مباشرة مفهوم حكم القانون في بلد ديمقراطي دستوري مثل فرنسا، باعتبار أن القانون لابد أن يكون فوق الجميع، ويطال المواطنين كافة بمن فيهم الرؤوس الكبيرة المتنفذة، وهذا أيضا يؤكد بجلاء التزام الدولة بنظامها الديمقراطي واستقلال القضاء وحرية الصحافة في النقد والمراقبة.

هذه ليست الظاهرة الوحيدة في فرنسا وأوروبا، فقد وجِّهت أكثر من مرة إلى وزراء وزعماء أحزاب سياسية وأعضاء برلمانات تهم مشابهة، وتعرضوا للمساءلة والمحاسبة أمام القضاء في بلدانهم بسبب الفساد واختلاس الأموال وقبول الرشا، أو استغلال النفوذ في المؤسسات الرسمية للترويج لأغراض شخصية معينة، أو قبول مبالغ من المال لإنفاقها على حملات انتخابية ومهرجانات دعائية كبيرة. هذا ونال الكثيرون القصاص العادل بعد ثبوت التهم ضدهم، وفي غالبية الحالات كان المخطئون يعترفون بخطئهم، ويعتذرون لشعوبهم ويتمنون عليهم قبولها. وفي أوقات كثيرة يكون رصيد هؤلاء الرموز والقيادات عند شعوبهم هو صدقيتهم في بداية أقوالهم وترديد شعاراتهم التي يستخدمونها كسلاح براق في حملاتهم الانتخابية، ولكن مع الممارسة على أرض الواقع يتعسر عليهم الحفاظ على مثل هذه الصدقية، إذ تصطدم أقوالهم ومبادئهم بالامتيازات والمصالح الذاتية، وسرعان ما تنهار كل تلك الأقوال والمبادئ.

لا تقتصر فضائح الفساد والرشوة واستغلال المناصب الرسمية على بلدان غنية ومتقدمة ديمقراطيا، ولا على بلدان فقيرة مازالت في بداية تطورها الديمقراطي، بل واقع الأمر أن ممارسات مثل تلك تكمن في ظاهرة الفساد الأخلاقي والسياسي والثقافة المستبدة التهميشية، إذ يمارس رذائلها كثير من زعماء الدول ورجال السياسة والاقتصاد وزعماء الأحزاب وغيرهم في المواقع الاجتماعية النافذة في الدولة والمجتمع. ولكن ما يميز هذه البلدان هو مسألة تحمل المسئولية والاعتراف بالخطأ وقدرة هذا المسئول أو ذاك على الإقرار بالنتائج المتمخضة عن إصدار الأحكام. وعادة ما يحاسب المسئولون الكبار في الدولة ومؤسساتها الرسمية، ليس بسبب تورطهم في مسائل الفساد وقبول الرشا فقط، إنما على درجة استغلال مناصبهم الرسمية من أجل تقريب هذا وإبعاد ذاك، أو تفضيل بعض المواطنين على بعض وتهميشهم عند الاختيار الوظيفي والتعيينات في المواقع الرسمية.

إن هناك أمثلة كثيرة من هذه الممارسات غير القانونية وغير الإنسانية والبعيدة عن الأخلاق، كانت تحدث وماتزال في البحرين، رغم ما يقال من وجود النظام البرلماني والقضاء المستقل والإجماع الوطني والرقابة الرسمية وغير الرسمية وحرية الرأي والصحافة. فعلى مدى ثلاثة عقود شهدت البحرين، وفي ظل غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان، مظاهر عدة من تفشي الفساد والرشوة وإهدار المال العام وتغليب المحسوبيات وشراء الذمم، فضلا عن صنوف التمييز السياسي والفكري والثقافي والطائفي، إلا أنه لم يحدث ولا مرة واحدة أن اعترف أي مسئول في الدولة بخطأ ارتكبه، أو اعتذر للشعب عن ذلك الخطأ، كما يفعل المسئولون الكبار في فرنسا وبريطانيا والسويد والدنمارك وغيرها من الدول ذات الأنظمة الديمقراطية والدستورية، أو حتى في بلدان أخرى ذات أنظمة مشابهة للنظام في البحرين مثل الكويت والمغرب. ما يجري عادة هو أن يعترف المسئولون بأخطائهم، ثم يستقيلون من مناصبهم، وينزوون في بيوتهم بعد أية فضيحة تحدث.

ومن الأمثلة على ذلك وزيرة العدل الدنماركية في حكومة بول نيروب راسموسن السابقة التي استقالت من الوزارة دون أن يمضي على توليها المنصب سوى ستة أشهر. استقالة الوزيرة جاءت ليس بسبب الفساد الإداري أو التقصير في المسئولية، بل بسبب مخالفة مرورية سجلها شرطي ضدها بعد مشاهدتها وهي تعبر بدراجتها الهوائية إحدى إشارات المرور وهي مضاءة باللون الأحمر. وكان وزير الكهرباء في الحكومة نفسها استقال بعد عام إثر انقطاع التيار الكهربائي عن العاصمة كوبنهاغن لمدة ساعة واحدة فقط.

أما السيدة معصومة المبارك وزيرة الصحة الكويتية فقد استقالت من منصبها بسبب حملة انتقادات واسعة من قبل بعض أعضاء مجلس الأمة الكويتي على خلفية الحريق الشهير في مستشفى الجهراء، وهو ما تسبب وقتها في موت وإصابة الكثير من المرضى والموظفين. كل ذلك حدث في بلدان ذات أنظمة برلمانية ودستورية متباينة التطور.

الأمر في مملكة البحرين مختلف تماما، إذ مايزال المسئولون ومنذ حقبة الدولة الأمنية وحتى عصر المملكة العتيدة يمارسون بشكل مقنن نهج الماضي. يرفضون الاعتراف بالأخطاء غير القانونية التي يمارسونها في المؤسسات الرسمية، ويتصدون لأية مكاشفة أو مساءلة أو محاسبة سواء من قبل البرلمان أو مؤسسات المجتمع المدني المستقلة. يمارسون الطرق الملتوية، ولم يتصفوا البتة بما يتصف به المسئولون الكبار في الأنظمة الدستورية المتقدمة إذ يظهرون في وسائل الإعلام ليعترفوا بأخطائهم ومن ثم يعتذرون لشعوبهم.

اليوم باعتقادي ليس هناك مواطن في البحرين لم يسمع بالفساد الإداري المفضوح في معظم مؤسسات الدولة. وما يفعل فعله اليوم التقرير «المحرّم»، وكاد أن يوقع البلاد في فتنة طائفية ومذهبية عميقة لولا تصدي العقلاء من أبناء هذا الوطن لمنع إشعالها، أو عن كل الظروف المعيشية اليومية الضاغطة على حياة المواطنين بسب الغلاء الفاحش في معظم المواد الاستهلاكية، وضعف الرواتب وازدياد البطالة والتمييز في الفرص الاجتماعية والعمل.

البحرين ومنذ إعلان تحويلها إلى مملكة تفتخر بنظامها الذي شدّد على احترام مبادئ الديمقراطية وكل الأعراف الدولية بهذا الخصوص، رغم أنه مازال موضع جدل بين الغالبية التي وجدت فيه أنه لا يحقق أهدافها وتطلعاتها وأمانيها نحو المشاركة الحقيقية والمساواة والعدل والعيش المشترك والحياة الكريمة.

Loading