(1 من 3) ذاكرة النضال الوطني في البحرين في حقبة سنوات التسعينات

“انتهى حاجز الخوف في البحرين .. الشعب يطالب بالتغيير”

هذا هو العنوان الرئيسي، الذي تصدر الصفحة الأولى في جريدة بوليتكن الدنماركية “Politiken” اليومية الواسعة الانتشار في الدنمارك، والتي كانت من أكثر الصحف الدنماركية، أهتماما بتغطية أحداث الانتفاضة الدستورية، التي انطلقت في كانون الاول/ ديسمبر 1994  للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وعودة الحياة البرلمانية والمواد الحيوية المعطلة من دستور البحرين العقدي لعام 1973 واطلاق سراح سجناء الرأي، وعودة المبعدين والمنفيين من دون أي شروط مسبقة، والذي كان “بطل انطلاقة شرارتها الاولى” سماحة الشيخ علي سلمان، الذي دعم اضراب العاطلين عن العمل المعتصمين امام بوابة وزارة العمل البحرينية من اجل توفير وظائف، ووزع التماسات تطالب بعودة البرلمان الذي جرى حله عام 1975، وتم اعتقاله ومن ثم ابعاده من البلاد، بصورة قسرية، وذلك بصحبة رفاقه عالمي الدين الشيخ حمزة الديري والسيد حيدر الستري، إلى دولة الامارات العربية المتحدة، وبعدها إلى المنفى القسري الطويل في لندن .

نشرت الجريدة الكثير من الاخبار المكثفة وذات الرمزية النضالية العالية حول مسارات الانتفاضة الدستورية، وثلاثة مقالات تحليلية هامة وموسعة حول الاوضاع الملتهبة في البحرين، بقلم مندوبة الجريدة، التي زارت البحرين، في تلك الفترة، بنيلا برايمنك، وكان آخرها قد صدر في 4 حزيران/ يونيو 1996 تحت عنوان ” انتهى حاجز الخوف في البحرين .. الشعب يطالب بالتغيير” .

وجاء في المقال : الذهب الأسود أخذ يتدفق منذ أكثر من 60 سنة في هذا البلد الخليجي الصغير المساحة والسكان (البحرين) وشهدت البلاد بعده تطورا مذهلا في مختلف أوجه الحياة العامة والتنمية الاقتصادية والبشرية، حيث كانت قد ظهرت هناك احصائية جديدة تشير إلى تنامي التوجه نحو التحديث ومواكبة العالم المعاصر، ولاسيما في قضايا التنمية والعمران والتجارة العامة، وكانت هناك دلائل كثيرة تشير إلى نهضة مالية قادمة لا محالة .

ولكن الصورة تبدو مختلفة من الناحية الأمنية، حيث أن كثرة الحواجز الأمنية الممتدة في مناطق التوتر ودوريات الشرطة المدججة بالاسلحة التي تجوب الشوارع بشكل ملفت يوميا، تعطي الانطباع بوجود فوضي أمنية عارمة في البلاد، وتتحدث عن أوضاع أخرى قاسية يعيشها شعب البحرين كنتيجة لتلك الازمة .

لقد كانت البلاد منذ فترة طويلة مستنبتاً لمقاومة سياسية سلمية تطالب أمير البلاد الشيخ عيسى بن حمد آل خليفة، وحكومته بادخال الديمقراطية وعودة البرلمان وتوفير العدالة الاجتماعية وعودة المبعدين والمنفيين واطلاق سجناء الرأي والضمير، وغير ذلك من الحقوق المدنية المسلوبة، ولكن الامير والحكومة معاً تجاهلوا مطالب الشعب، الذي فقد الصبر، وفقد ثقته بالامير والحكومة على حد سواء، واستمر مطالباً بالاصلاحات الضرورية والملحة، وليس أقل من ذلك اطلاق سراح أكثر من 2.500 معتقل سياسي يرزحون خلف القضبان في المعتقلات والسجون، لا لشيء بل لانهم قد عبروا عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية والحقوقية المشروعة، هذا ما صرح به للجريدة، مواطن بحريني في الداخل، وفضل عدم الكشف عن اسمه خوفا من البطش .

لقد كان شعب البحرين منذ عقود طويلة ولا يزال حتى الآن، يتمنى أن تكون الديمقراطية والحكم الدستوري وحقوق الانسان، حقائق قائمة على أرض الواقع، ولكن مع تجاهل الأمير والحكومة رأي الشعب، واستمرار القمع الوحشي، لزم الناس الصمت، إزاء رفض الحكومة تحقيق المطالب الاصلاحية الضرورية، ولكن مع مطلع حقبة سنوات التسعينات، تحطم حاجز الخوف بين المواطنين البحرينيين، وبدأت الاصوات ترتفع جهارا نهارا مطالبة بالتغيير الحقيقي والجوهري، الذي أجمع عليه الشعب برمته، وصار الجميع الآن يناقشون بالمكشوف جميع القضايا الوطنية الهامة والملحة وحقوق الانسان، هذا ما صرحت به لي كاتبة صحفية بحرينية، فضلت أيضا عدم الكشف عن أسمها في الجريدة .

دوامة العنف تحصد الكثير من الأرواح :

الأمور السلبية، التي تشهدها البحرين الآن، تتمثل بالتأكيد في استمرار موجة العنف الصارخ، وقد أخذت الاحتجاجات الشعبة المطالبة بالاصلاح تنطلق على نطاق واسع في المجتمع وبشكل سلمي، حيث بعث المواطنون، إلى أمير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، عدد من الرسائل والعرائض المطلبية الموقعة من النخب السياسية والقواعد الشعبية، تناشده بالعمل على اعادة الحياة البرلمانية العامة والمواد الحيوية المعطلة من دستور البلاد الشرعي للعام 1973، ولكن الأمور تطورت في مابعد إلى استخدام العنف والعنف المضاد مع تفجير القنابل الحارقة وعنف قوات الامن واعتداءاتها على التظاهرات السلمية .

في مناطق القرى البحرينية يمكن أن تجد جنبا إلى جنب الفيلات الفاخرة للاثرياء، وبيوت قديمة يسكنها فقراء البلاد، وفي كل مسكن من مساكن الفقراء يعيش ما بين ثلاث إلى خمس عوائل تحت سقف واحد، وهنا تستطيع أن تجد قرابة 15 في المئة من المواطنين الاصليين يعيشون حياة صعبة للغاية، حيث تستلم كل عائلة فقيرة في البحرين مساعدة اجتماعية محدودة من الحكومة لا تزيد عن مبلغ ( 450 كرونة دنماركية) أي ما يعادل حوالي 56 دولار أمريكي، في الشهر، في دولة خليجية نفطية، ويبدو أن هذا الواقع المزري هو الذي دفع بالناس للاحتجاج على تردي الاوضاع والظلم المستحكم من السلطات، والنضال ضد البطالة التي بلغت الآن أكثر من 20 في المئة، ونتيجة لهذا المفهوم الجديد للوضع تجد علماء الدين الشيعة في البلاد، يلهبون مشاعر شباب البحرين، في أجواء تشبه إلى حد كبير حركات المقاومة الشيعية الاصولية التاريخية المعارضة للحكومات الاستبدادية الظالمة .

وعلى صعيد الواقع، فإن الحركة المطلبية في البحرين، ليست لونا واحدا فقط، فهي تجمع مختلف الطوائف والمذاهب والتيارات والقوى الوطنية اليسارية والاسلامية على حد سواء، التي تنشد التغيير الحقيقي والجوهري، وهي حركة مقاومة سلمية، لا تريد تغيير النظام بل اصلاحه من الداخل، وهذا ينفي قطعيا إدعاءات الحكومة، بأن الجمهورية الاسلامية في ايران تقف وراء الاضطرابات القائمة في البحرين .

تصعيد خطير :

أنه تصعيد خطير للدولة ويتحمل مسؤوليته أمير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، والحكومة البحرينية مباشرة، وإذا ما أرادت الحكومة أن لا تتدخل ايران أو غيرها في الشأن الداخلي البحريني، فيجب عليها أن تحل جميع المشاكل التي يعاني منها الشعب برمته، بدلا من توجيه الاتهامات القاسية والباطلة للقوى الاجنبية، وبدلا من استخدام العنف وارهاب الناس وقطع الارزاق، وحملات الاعتقال التعسفي والاعدامات، والقتل برصاص الشرطة خلال التظاهرات السلمية، وعليها أن تستجيب لكافة المطالب الشعبية المحقة والعادلة، وتعيد العمل بالدستور والاستماع لكل ما يقوله شعب البحرين، كما صرح بذلك لي أكاديمي بحريني (شيعي)، فضل أيضا عدم الكشف عن اسمه في الجريدة .

ليست الطبقة الاجتماعية الفقيرة في المجتمع هي وحدها فقط التي ظلت تعاني من سياسة القمع والاضطهاد والحرمان، وتناضل من أجل التغيير، فالطبقة الوسطى في المجتمع ظلت هي أيضا تطالب بالتغيير وتعاني من الفساد الاداري، حيث أستأثر الامير وافراد عائلته بحق التصرف بالسلطة والحكم وامتلاك أموال الدولة، فالعائلة الحاكمة تمتلك كل شيء، الشركات والمؤسسات والمحال التجارية والعمارات والمزارع، وتضع يدها على كامل الاقتصاد الوطني في البلاد، وتحاول أن تعيق جميع مسائل التطور والتنمية في المجتمع، الامر الذي لا يتاح للمواطن العادي الحصول عليه، والذي يتوجب عليه أن يدفع المبالغ الطائلة لكي يحصل على ترخيص من أجل أن يفتح محل أو مقهى، ولذلك نحن نطالب بالديمقراطية والتصدي للامير والشركات الاحتكارية الاجنبية من توسيع امتيازات الاحتكار والهيمنة، هذا ما قاله لي أكاديمي آخر (سني) طلب ايضا عدم الكشف عن اسمه في الجريدة .

مؤشرات جديدة وخطيرة :

كان واضحا بالضبط منذ بداية التحركات المطلبية الشعبية، أن الشعب بجميع فئاته وشرائحه وفعالياته وطوائفه، يريد التغيير الفعلي من دون اللجوء إلى العنف، ولكن الأمير وحكومته، تجاهلوا كل تلك المطالب، وقللوا من دور المعارضة وحجم التأييد الشعبي، وليس أقل من ذلك تصريحات وزير الدفاع السعودي النارية، والتي يفهم منها على أنها دعم مطلق وغير مشروط لسياسات الامير وسلطته وحكومته .

والأحداث التي تجري الآن في البحرين، تعتبر مؤشرا جديدا وخطيرا على استمرار المواجهة بين الحكومة والشعب، ومؤشرا في نفس الوقت على وضع البحرين كدولة اقتصادية تمثل المركز المالي للشرق الأوسط، حيث يوجد فيها أكثر من 100 بنك، وأكثر من مليار دولار احتياطي يستخدم يوميا للتداول المالي .

وتعتبر البحرين المركز الرئيسي للقاعدة البحرية الامريكية في الخليج، التي تواجه ايران والعراق وطريق الذهب الأسود إلى القارة الآسيوية .

هذا كل ما جاء في المقال الموسع والأخير في سلسلة المقالات، التي نشرتها الزميلة الكاتبة والصحفية الدنماركية، بنيلا برايمنك، عندما كانت رئيسة دائرة الشرق الأوسط في جريدة (بوليتكن) اليومية، وزارت البحرين كمندوبة معتمدة عن هذه الجريدة بشأن تقصي الحقائق عن الأوضاع التي تعيش في ظلها البلاد، أبان حقبة سنوات الانتفاضة الدستورية، والتقت هناك أعداد كثيرة من السياسيين  والاكاديميين والاساتذة وطلبة المعاهد والجامعات، وزارت بعض المساجد والمأتم الحسينية وهي مرتدية للحجاب، في عدة مناطق بحرينية، وحاولت أن تجمع الكثير من القصص والروايات الشعبية، التي تحدثت عن هموم وشجون المواطن البحريني، ومسارات الانتفاضة الدستورية المباركة، خاصة وانها كانت تجيد اللغة العربية بطلاقة، وكانت قد تعرضت بسبب هذه الجهود الكبيرة، إلى التهديد من قبل السلطات بترحيلها بشكل قسري، كما حدث مع صحفية فرنسية، وعدم السماح لها بزيارة البحرين في مرات قادمة، إذا ما قامت بنشر جميع الحقائق المخالفة لرأي السلطة.

ومن هنا لا يسعنا غير أن نتوجه ببالغ الشكر والامتنان والاحترام والتقدير للزميلة العزيزة، بنيلا بيرامينك، الكاتبة والصحفية اليسارية الشجاعة، على جميع مواقفها التضامنية الكبيرة والمخلصة مع قضايا شعب البحرين، ونريد أن نذكرها اليوم، وهي لاتزال حية ترزق، بأنه لم يتم هناك أي تغيير جذري يذكر حول الاوضاع، وثلج الصدر، عما كانت شاهدة عليه في ذلك الوقت على أرض الواقع وكتبت حوله في الجريدة بشأن المطالب الشعبية المحقة والعادلة في حقبة سنوات الانتفاضة الدستورية المجيدة، في تسعينيات القرن الماضي، بل أن البحرين ظلت تشهد منذ العام 2011 وحتى اللحظة الراهنة، أسوأ مما كانت قد شهدته في سنوات تلك الحقبة السوداء الملطخة بدماء الابرياء من شعب البحرين، فالقمع الوحشي الممنهج وحصار الديمقراطية وخنق الحريات العامة وحقوق الانسان وتجاهل الارادة الشعبية، ومنع التغيير بجميع الوسائل الاستبدادية القمعية الممكنة، هي أوضاع يرثى لها، ومازالت مهيمنة هيمنة كاملة وشاملة، ومكرسة ومعززة ومعشعشه في فكر وثقافة وعقول حكام البحرين الحاليين، وإلى الله المشتكي، والاعتماد الكبير عليه لتحقيق النصر المبين وتغيير الأحوال.

27 كانون الأول/ ديسمبر 2020

هاني الريس

Loading