سنوات ما بعد الميثاق .. حصار الديمقراطية والمجتمع (1 من 5)

بعد الاستفتاء على مشروع ميثاق العمل الوطني، الذي اقر في شباط/ فبراير 2001 نتيجة تصويت ما يقارب من 98.4% من الشعب لمصلحته (بحسب المصادر الرسمية) وبعد تحويل دولة المراقبة الامنية التي غيبت فيها جميع الحريات المدنية والمشاركة المباشرة للشعب في بناء حياة الدولة اليومية من القاعدة إلى القمة، إلى مملكة، أطلق كبار المسؤولين البحرينيين وفي مقدمتهم حاكم البلاد الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، وبصورة متكررة صيحات الزهو بالانتصار، ورفعوا شعار ” الشعب مصدر السلطات جميعا ” وتحدثوا عن أن البحرين في سبيلها لأن تصبح مملكة ديمقراطية دستورية على غرار الممالك المتقدمة في العالم، التي تحترم حق السيادة للشعب وتضع السلطات كلها في يده وتكريسها وتعزيزها لتحقيق جميع أهدافه وتطلعاته المنشودة.

وضمن هذا السياق حصل هناك شبه استقطاب بين جميع هؤولاء المسؤولين ومعهم سائر الأبواق والمداهنين والمهرولين وراء المنافع الذاتية والامتيازات، التي ظلوا يتطلعون اليها بشدة، مبشرين الناس بتغيير تاريخي وجوهري، قد ينسى المجتمع البحريني برمته، كل ما حدث من مخالفات وتجاوزات وانتهاكات صارخة لحقوق الانسان خلال حقبة سنوات قانون ومحاكم أمن الدولة السيئة الصيت، ويوفر جميع الحلول السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطلوبة، بعد تاريخ طويل من غياب الحد الادنى من الحريات. ولكن الذي حدث في النهاية هو أن تحول مشروع ميثاق العمل الوطني فجأة إلى قوة قهر وبطش وحرمان المواطن البحريني من أبسط حقوق المواطنة المشروعة، وتحول نظام الدولة الحديثة من نظام لحماية الامة ورعايتها إلى نظام  حكم القبيلة الضيق والمحدود، الذي يكرس ويعزز مفهوم التفرد بصنع القرار، وتشجيع الولاء الشخصي، ودعم الرعاية المبنية على توزيع المنافع والمحسوبيات والفرص الاجتماعية الخاصة والامتيازات .

وفي سياق خطابه الأول الذي توجه به لشعب البحرين، لمناسبة البدء في العمل لتأسيس المشروع، قال حاكم البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، وبالحرف الواحد: ” نحن منذ هذه اللحظة الراهنة التي نقف فيها أمامكم، سوف نبدا بعون الله ومباركته خطوة الالف ميل في طريق التغيير الحقيقي والجوهري، ونعمل بتعاون الجميع على إنجاح مسيرة التغيير والبناء والاعمار والتنمية الشاملة في عموم البلاد، وبشكل لا يمكن أن يفتح المجال لأي جدل في المستقبل، وعليه فقد أصبح اليوم من واجبي أن أمد يدي لجميع أبناء هذا البلد من دون إقصاء أو تهميش، وادعوهم للتعاون معي واعطائي الفرصة الكاملة والشاملة للنهوض بتلك المهمة الصعبة التي ستأسس لزرع البذرة الاولى لبناء دولة النظام والقانون وتجديد شكل العلاقة المجتمعية العامة وتكريسها وتعزيزها بين الحكم والمجتمع، على قاعدة المشاركة السياسية والمساواة والعدل وجميع حقوق المواطنة المشروعة .

وأكثر من ذلك ركز الخطاب، على ضرورة تمسك الحكم بجميع الثوابت الوطنية الثابتة والراسخة، التي ناضل من أجلها شعب البحرين على امتداد عقود، والعمل على حماية القانون والنظام واحترام الدستور التعاقدي لعام 1973 بصفته المرجعية الوحيدة على مستوى النظام السياسي، واعتبار مشروع ميثاق العمل الوطني بمثابة جسرا للعبور السلس نحو تكريس وتعزيز مرتكزات الدولة الدستورية المنشودة، والتي سوف تعمل على توسيع تدابير الحريات العامة بمفهومها الاجتماعي، وضمان التعددية السياسية والحزبية والمنظمات المدنية، وتوفير الفرص الاجتماعية والعمل لكافة المواطنين من دون تمييز أو تفضيل، وذلك على قاعدة تكافؤ الفرص، وتأكيد المشاركة الجماعية الحقيقية والفعلية في مختلف عمليات صنع القرار .

والى ذلك، شدد هذا الخطاب، على ضرورة الاصلاح الحقيقي والفعلي لجميع القوانين والإجراءات والمراسيم الأميرية السابقة، التي “تضرر منها مواطنون كثيرون ” خلال حقبة سنوات قانون ومحاكم أمن الدولة، ولكنه في نفس الوقت شدد على أن يكون هو نفسه فقط رمز الدولة العتيدة وقائد مسيرتها الاصلاحية، وهو صاحب الحق الاول والاخير في إصدار القرارات والمراسيم والتشريعات، حيث تملي عليه ضرورات المرحلة الانتقالية الجديدة القيام بتلك المهمة، وذلك بحسب الفقرة (2) من مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث المكرسة في مشروع ميثاق العمل الوطني، والتي تنص على أن ( يأتي صاحب السمو أمير البلاد على رأس هذه السلطات ) .

مشروع الخدعة الكبرى والانقلاب على الدستور التعاقدي لعام 1973:

وأن ما يلفت الانتباه في كل ما ورد في الخطاب، هو محاولة تزيين مشروع تحويل البحرين من دولة بوليسية صارمة، على شاكلة الدول التي تتعامل مع شعوبها بكل أدوات التعسف والبطش، إلى “مملكة دستورية” تؤكد بواسطة شعاراتها كافة المبادئ الأساسية الجوهرية، التي ترتكز عليها جميع قواعد الحكم الديمقراطي الدستوري، وهي وجود دستور تعاقدي، وتعددية سياسية، ومؤسسات تشريعية، وقضاء مستقل، ومنظمات مجتمع مدني، وحريات عامة، وسلطة الشعب، وتداول السلطة بين الأحزاب الفائزة في الانتخابات العامة، وشرعية حكومية، وإجماع وطني، وصحافة حرة، ونقد ورقابة رسمية وشعبية، وتنمية بشرية واقتصادية وثقافية وغيرها من أشكال الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في جميع الأنظمة البرلمانية الدستورية العصرية، وبحيث تختفي جميع مؤسسات الدولة العميقة ودوائرها المتعددة، تاركة للحكومة المنتخبة والبرلمان والمنظمات الوطنية الاهلية، حرية التصرف بصنع القرارات.

وبعد كل ما جاء في الخطاب الاميري المطبوخ بالسموم، وبما في ذلك جملة الوعود والتطمينات والتعهدات الصريحة والملزمة حول احترام دستور البلاد التعاقدي لعام 1973 وعدم المساس به بشكل مطلق، وكذلك تنفيذ معظم ما جاء في نصوص وبنود وتعديلات طارئة على مشروع ميثاق العمل الوطني، انطلت على غالبية أفراد المجتمع البحريني، مظاهر ذلك الكلام المعسول وتلك الخدعة الخارقة، وشعروا بأن الوقت قد حان لدخول البلاد في حقبة جديدة من استتباب الامن والاستقرار المطلوب، والسعي نحو مصالحة وطنية حقيقية وشاملة قد تخرجها من أتون محنة المصير المحتوم، التي عاشت مآسيها وكوارثها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والامنية، خلال حقبة سنوات قانون ومحاكم أمن الدولة.

وساد هناك اعتقاد عام بعد اقرار مشروع الميثاق، واعلان العفو العام الشامل وغير المشروط، وتنظيف السجون من المعتقلين والموقوفين والمحكومين في القضايا السياسية، وعودة المبعدين والمنفيين من دون أية شروط مسبقة، بأن البحرين، كما لو أنها أصبحت “اليوم” ماضية في سبيلها لمواكبة عصر الممالك البرلمانية الدستورية العصرية، وانه ربما قد أصبح بمقدورها في المستقبل أن تتخطى، ليس فقط دول المنطقة، ولكن أيضا دول العالم العربي برمته، إلى حد قد توقع فيه أحد القياديين البارزين في صفوف الحركة الوطنية البحرينية، التي قادت مسيرة النضال الوطني في المنافي القسرية، على امتداد عقود من الوقت، بأن قطار مشروع النهضة العربية الجديدة سوف ينطلق من البحرين.

وقال: ” لقد ظهرت هناك في الأفق ملامح مشروع نهضة سياسية واجتماعية طليعية، سوف تبدأ خطواتها الأولية من البحرين، وسوف تمهد إلى إنعطاف التاريخ في منطقة الخليج، وربما في العالم العربي برمته، والتي يمكن أن يبني حولها إجماع وطني متجه للعمل . ولكن للاسف الشديد كان مشروع هذه النهضة المنشودة، قد دخل حقبة الانفتاح الجديدة بطعم مرير النكهة ومخاوف كثيرة من المستقبل، الذي سوف تؤول إليه الأوضاع في البلاد، بعد أن تنتهي نشوة “الانتصار العظيم” لمشروع الميثاق المزعوم، وتتضح جميع الرؤى والحقائق الصحيحة على أرض الواقع، وهذا هو بالضبط الأمر الذي قد حدث، عندما بالغ حاكم البلاد الجديد حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، كثيرا في اللعب على الحبال، وحاول أن يضلل المجتمع بالكلام المعسول والمناقض للحقيقة والواقع، بدلا من احترام كافة التعهدات والمواثيق التي قطعها على نفسه وأمام المجتمع، فظل ينتدب نفسه دائما لتمثيل الشعب والنيابة عنه في صنع قرارات الدولة والمجتمع، ويرفض أية شراكة حقيقية مع الآخرين، سوى التفرد بالحكم والاحتكار المطلق للسلطة والحكم ومنع التعددية السياسية وليس العكس.

في الحلقة القادمة .. الحكم استخدم ميثاق العمل الوطني كسلاح مرحلي واستراتيجي براق للهروب من تاريخ السمعة السيئة التي التصقت به عبر تلك العقود الطويلة ولتكريس وتعزيز نهج التفرد بالسلطة والحكم وصنع القرار.

هاني الريس

25 آب/أغسطس 2021

Loading