سنوات ما بعد الميثاق .. حصار الديمقراطية والمجتمع (3 من 5)

كيف تصدت الجمعيات السياسية البحرينية بالوسائل الشرعية لمهمة وقف المسارات الطائشة والخاطئة لمشروع ميثاق العمل الوطني والانقلاب على دستور البحرين الشرعي لعام 1973 ؟

أمام جميع النتائج السلبية المعروفة سلفا، والتي حسمت جميع الأمور تقريباً لمصلحة حاكم البحرين وأعضاء الاسرة الحاكمة، على حساب الإرادة الشعبية، وعكست استياء غالبية الشعب من الممارسات التي أخلت بنصوص وبنود دستور البحرين التعاقدي لعام 1973 ومشروع ميثاق العمل الوطني، جاءت ردود فعل الجمعيات السياسية المعارضة ولاسيما الجمعيات الأربع (الوفاق الوطني الإسلامية، العمل الوطني الديمقراطي، العمل الإسلامي، التجمع القومي) التي كانت قد أعلنت مواقفها المبدئية والحاسمة بصراحة، من رفض التعديلات الدستورية والصلاحيات المنقوصة للمجلس النيابي المنتخب، وكذلك التوزيع غير العادل للدوائر الانتخابية، وتكريس بقاء المراكز الانتخابية العامة، وجميع الإجراءات والمراسيم والقرارات المخالفة للشرعية الدستورية، ونصوص وبنود ميثاق العمل الوطني، إضافة إلى كافة الوعود الضمنية والعلنية والتصريحات الرسمية المنشورة في الصحف ووكالات الانباء، التي قطعها حاكم البلاد الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، على نفسه وأمام الشعب، بأنه سيكون خادماً وأميناً على دستور البلاد الشرعي لعام 1973 ونصوص وبنود ميثاق العمل الوطني، والتعديلات الجديدة الطارئة التي إجريت على مشروع الميثاق بعد الاعلان الرسمي عن قيام المملكة الدستورية ( المملكة الخليفية الاولى )، ففي كافة الندوات والبيانات السياسية والتظاهرات الاحتجاجية السلمية، التي قادتها الجمعيات السياسية الاربع المعارضة، قالت بأنها: “سوف تعمل بكل الوسائل الشرعية المتاحة للديمقراطية في التصدي لكافة المحاولات التي من شانها أن تعرض جوهر الدستور التعاقدي لعام 1973 وكذلك مشروع ميثاق العمل الوطني لخطر الانقلاب على جميع الاسس والمبادىء السياسية والاخلاقية  المكرسة في مواد الدستور وميثاق العمل الوطني”.

وقال بيان للجمعيات الأربع التي قاطعت الانتخابات: “لقد التزم الحكم باحترام الدستور العقدي لعام 1973 ونصوص ميثاق العمل الوطني، الذي صوت الشعب لمصلحته بنسبة 98.4% وتوفير حق المشاركة الشعبية في صنع قرارات الدولة والمجتمع، ومنح المجلس النيابي المنتخب كامل الصلاحيات التشريعية والرقابية، فيما تبقى مهام مجلس الشورى المعين للمشورة فقط، ولكن ما كان ظاهرا على السطح هو انه لا يوجد التزام أو تعهد واحد لم يخرق”. وربما كان ابلغ تعبير ذلك هو الانقلاب على الدستور التعاقدي للعام 1973 وتعطيله بل استبداله بدستور المنحة الصادر من جانب واحد وبارادة واحدة في العام 2002 وتقليص صلاحيات المجلس النيابي، وتمكين سلطة الحكم بالسيطرة على جميع مفاصل الدولة والمجتمع بكل ما تحفل به من تحيزات تمليها مصالح شتى للتأثير على وعي المجتمع بمشكلاته الأساسية، من خلال التضخيم من السلبيات الحاصلة في الساحة، والتركيز على قدرة الحكم والحكومة على معالجة كافة القضايا المهمة والحساسة والتهوين من قدرة الجمعيات السياسية والمنظمات الوطنية الأهلية على معالجتها والمشاركة في ادوات صناعة قراراتها وجميع توجهاتها المطلوبة .

ويضيف البيان: “في النهاية، فان اختبار التغييرات الحاصلة في البلاد تكمن في معالجة الحكم أو الحكومة بصورة دستورية للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالطبع، وضرورة إعادة هيكلة مؤسسات وإدارات الدولة الراهنة، ومكافحة الفساد ووقف تدفق موجات المجنسين، وتوفير فرص العمل للمواطنين من دون تمييز أو تفضيل، ومحاسبة رموز الفساد ومرتكبي الانتهاكات والجرائم البشعة ضد شعب البحرين، خلال حقبة سنوات الرصاص التي عاش مواجعها ومآسيها الكارثية في ظل المظالم غير المكبوحة التي مورست من خلال تفعيل جميع مواد قانون ومحاكم أمن الدولة السيء الصيت على امتداد أكثر من ربع قرن من الزمن، وضرورة معالجة العلاقة مع  قوى المعارضة التي قاطعت الانتخابات النيابية، فهذه الأمور بالنسبة لنا، هي المحك وهي التي سوف تحدد مصداقية الحكم والتزامه بالقوانين وروح الدستور وميثاق العمل الوطني” .. انتهى البيان .

و ” ترى الناس سكارى وماهم بسكارى “

والواقع أن شروط التغيير الحقيقي والجوهري، ليس فقط القدرة على استخدام المبادرات التحفيزية والتشجيعية، أو توزيع المكرمات السامية، التي يقصد منها استغفال المجتمع وايجاد الحلول الترقيعية للمشكلات الداخلية والخارجية، وليس عمليات التفرد بصنع القرار، وإنما تغيير صورة تعامل الحكم والحكومة مع كامل الإرادة الشعبية، ومع الجمعيات السياسية والمنظمات المدنية، التي يفترض أنها تمثل التوجهات والتطلعات الاستقلالية لمختلف قوى المجتمع والمعبرة دائما عن الارادة العامة للامة  .

ولعل أبلغ تعبير عن قلق النخب السياسية في المجتمع، الذي ساد في تلك الفترة الصعبة والحرجة، هو ما تحدث فيه، رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي ( وعد ) المناضل الرمز، عبد الرحمن محمد النعيمي في إحدى مقالاته الأسبوعية في صحيفة ” أخبار الخليج” البحرينية اليومية، حول أولويات الحكومة لمعالجة أوضاع المجتمع البحريني المتردية بوسائل الحكمة والتعقل والالتزام بجميع التعهدات والاقوال التي طرحت بخصوص التحولات الجديدة: “أن أولويات الحكومة، أية حكومة ديمقراطية أو تتجه نحو الديمقراطية، يجب أن تكون متوافقة مع احتياجات الشعب ورفع مستواه ومكانته في الداخل والخارج، ويكون الوضع مؤلماً ومثيراً للاستغراب عندما تتعارض أولويات الحكومة مع أولويات الناس، أو عندما تصطدم أولويات الناس مع مصالح كبار المسؤولين بحيث يكون حل مشاكل الناس كما لو أنه على حساب مصالح مثل هؤلاء المسؤولين، ولا يمكن خداع الناس كل الوقت، ولا يمكن أن تكون التصريحات والتطمينات مهدئاً ومسكناً ومخدراً دائماً، خاصة إذا كان الواقع يكشف كل يوم الحقائق التي تبين ازدواجية المعايير أو عدم مصداقية الفرد أو المسؤول، مما يخلق المزيد من الإرباك، و”ترى الناس سكارى وما هم بسكارى” ولكن عذاب القهر والجوع شديد، مما يولد عدم المصداقية لدى الناس، ويدفعهم إلى أفعال لا تحمد عقباها عليهم أو على غيرهم” .

وفي مقابلة صحفية أجرتها معه جريدة ” الوسط ” البحرينية في نفس الفترة، أشار النعيمي، إلى ” أن سياسة السلطة الحاكمة في البحرين تقوم على تقديم هبات وإغراءات وعطايا كثيرة تجر ورائها الكثير من الساسة الرموز وفئات اجتماعية متنوعة، لكن في المواضيع الجوهرية لا تريد تقديم أي تنازل، ونحن نرى بأن المشكلة الاساسية هي في المشاركة الحقيقية بصنع القرار والمشاركة في الثروة الوطنية “.

ومن بين ما قد رآه عبدالرحمن النعيمي، من آراء مستقبلية بشأن قوى المعارضة البحرينية التي عارضت المشاركة في الانتخابات، هو انها على مدى أربع سنوات قادمة يمكن لها أن تحقق نصرا كاسحا لصمودها و لمواقفها المبدئية العامة اذا ما ظلت متماسكة ومتضامنة وموحدة ومتصديه لجميع التحديات الكبيرة، التي تحاول أن تفرضها عليها السلطة بالوسائل الملتوية وغير القانونية، وحذرها من خطر التراجع عن مبادئها وتلاحمها ومواقفها المحقة والعادلة، وقال للجميع:” انكم إذا تهاونتم وتراجعتم وتفرقتم من حول المصير الواحد المشترك، فإنكم ستدركون إلى أي درك ستهوى هذه المعارضة، ولذا لا تغامرون بأي تنازل محق يمكن أن يضعف من عزيمتكم ويكسر شوكتكم في النضال .

وللتذكير فقط، أن حاكم البحرين الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، قد التزم وتعهد شخصيا، في خطاب العرش الذي مارس فيه تأثيره القوي على المجتمع باتجاه دغدغة مشاعره وعواطفه لجهة دعم ومساندة مشروع الاصلاح، بأنه سوف يقوم مباشرة بعد أن يكتسب المشروع الاصلاحي ثباتا واستقرارا ومشروعية، بمعالجة كافة الملفات الصعبة وجميع المشاكل التي شهدتها سنوات الحقب الماضية، وعدم تكرار الأخطاء أوالسكوت عليها، أو الوقوع في أية ثغرات أو مطبات عميقة مرة ثانية، ولكنه وللاسف الشديد قد تخلى عن جميع تلك الوعود والتعهدات الكثيرة وضرب بها عرض الحائط، وظل يمارس دوره التمثيلي الواسع النطاق للاحتكار المطلق للسلطة ومنع التعددية السياسية والمشاركة في الحكم، ويستعيد تاريخ السياسات الظالمة والغاشمة، التي مورست في ظل عهود حكم أجداده المتشددين الاوائل الذين إستولوا على الزرع والحرث، وفرضوا قبضة طاغية على المجتمع، وأهدروا دماء الناس الابرياء، ونهبوا الاقتصاد الوطني، وجمعوا الثروات الضخمة والهائلة من شقاء وتعب وعرق البؤساء والفقراء والكادحين، وحرموا المواطن البحريني من أبسط حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والفكرية المكتسبة والمستحقة .

وهكذا ومن خلال هذه الروحية الاستعلائية والمتفردة بصنع أدوات القرار في البحرين، حاصر، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، جميع أوجه الديمقراطية الواقعية، وشدد من قبضته الفولاذية على جميع مفاصل الدولة والمجتمع، واستطاع أن يحول مجريات الأمور في البلاد عن طريق ما سمي ب ” مشروعه الاصلاح ” من ظلم خفي ومختل إلى ظلم ظاهر ومقنن ومنظم بحسب ما هو مكرس ومعزز في جميع قوانين الدولة ودستور المنحة .

الحلقة القادمة ..  شخصيات وطنية واسلامية من خارج الجمعيات السياسية، أصابها السأم من سياسات الحكم كالمعتاد وتداعت لتأسيس مشروع لقاء وطني مشترك لمواجهة التحديات التي أعقبت الانقلاب على الدستور والمواد الحيوية من ميثاق العمل الوطني .

هاني الريس

6 أيلول/سبتمبر 2021

Loading