هايتي المنكوبة… «عساكر ومساعدات وقوافل موت»

كان مشهد الموت والدمار والخراب بعد الهزة الأرضية الرهيبة التي حولت أجزاء واسعة من هايتي إلى ركام، لم يشهد لها مثيل بتلك الكثافة المذهلة التي خلفت وراءها نحو 200 ألف قتيل و250 ألف جريح وأكثر من مليون ونصف المليون، مشرد كانوا هائمين على وجوههم في العراء يبحثون عن شيء من الغداء والدواء والمسكن، حرك بقوة مشاعر الناس في العالم برمته، ما حمل الحكومات والشعوب والمنظمات الإنسانية الدولية إلى إطلاق صيحات الخوف من حدوث الأسوأ في حال عدم وجود خطة انقاذ دولية لمواجهة هذه الكارثة، وتأخرت المساعدات الدولية للجائعين والجرحى والمشردين .

وفي غمرة الزلزال الذي مازالت تداعياته مستمرة، أصبح الجدل الأهم يدور حول من يستطيع تحمل المسئولية أكثر لحماية الهايتيين خلال محنتهم الراهنة وفي المستقبل .

في هذا السياق برزت لغة الاتهامات بين حكومات الدول التي سارعت بتقديم المساعدات الغذائية والطبية وعمليات البحث عن المفقودين وإيواء المشردين، فتكرست معظم الاتهامات ضد الولايات المتحدة الأميركية التي دفعت في الأيام الثلاثة الأول للهزة المدمرة بنحو 12 طوافة عسكرية في باحة القصر الرئاسي في العاصمة بورت او برينس، أنزلت أكثر من 60 مظليا مدججين بمختلف أنواع الأسلحة والمعدات، وسط انتشار أكثر من 8 آلاف جندي في محيط المطار الدولي وقرابة 12 ألف جندي في مختلف مناطق البلاد، أضيفت إليهم في نهاية الأسبوع الأول أكثر من 200 جندي من قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في خطوة أثارت مشاعر القلق والخوف لدى شعب هايتي الغارق في محنة الجوع والدمار والتشرد والمصير المجهول، من انتهاك السيادة وعودة الوصاية الأجنبية مجددا بذريعة انتشال المواطنين المنكوبين من براثن الكارثة ووقف تداعياتها.

هذه المخاوف التي تجسدت في نفوس غالبية المواطنين في هايتي، الذين مازالوا يحملون مشاعر الألم والتذمر، إزاء الولايات المتحدة الأميركية التي احتلت بلادهم ما بين العام 1915 و1934، بسبب بعض شكاوى البنوك الأميركية من تأخير سداد الديون المتراكمة على الخزينة الوطنية، وقيام الجيش الأميركي بالتعاون مع قوات الأمن الوطني في البلاد، بالضغط على الفقراء من عمال وفلاحين واجبارهم على المشاركة في تعبيد الطرق والمباني، حيث تم قتل الآلاف منهم بعد رفضهم أداء هذه المهمة ومطالبتهم بالحرية، وغير ذلك من الإجراءات التي لا تعكس الطموحات الهايتية الأساسية، ولا يجوز أيضا أن ننسى أن الولايات المتحدة الأميركية خلال الحرب الباردة احتجزت أكثر من أربعة عشر ألف لاجئ هايتي في معسكرات أميركية في خليج غوانتنامو وبنما، حيث أثارت المعاملة السيئة لهؤلاء اللاجئين في معسكرات اللجوء أعمال عنف أدت إلى إصابة أكثر من 250 شخصا بجروح غالبيتهم من قوات الأمن الأميركية، قابلتها أيضا هواجس كثيرة من حلفاء أميركا نفسها الذين وجهوا لها الاتهام بالتخطيط المبرمج لاستعادة نفوذها في المستعمرة الفرنسية السابقة في منطقة البحر الكاريبي، تمثل بالتواجد العسكري الكثيف والمبالغ فيه، وتفرد الجيش الأميركي بإدارة عمليات الإغاثة ومراقبة الأمن، وأول هذه الاتهامات صدرت عن وزير التعاون الدولي في الحكومة الفرنسية، الذي قال: «إن الولايات المتحدة الأميركية، تصرفت وكأنها لاتزال تحتل هايتي» وتفرض الوصاية عليها .

ولكن بالرغم من حرص المسئولين الأميركيين على تكرار التأكيد بأن الولايات المتحدة ملتزمة بالقيام بواجباتها الإنسانية تجاه هايتي في محنتها الكارثية، وليست هناك أهداف أخرى تستخدم لانتهاك السيادة الوطنية، إلا إن عددا من العواصم في أميركا اللاتينية، اعتبرت هذه المهمة (المستترة بتقديم المساعدات الإنسانية) ليست سوى نوعا من أنواع التمهيد لاتخاذ خطوات جدية باحتلال هذا البلد الفقير الذي عانى فيما مضى من غضب الطبيعة والانتدابات العسكرية الغاشمة، وهو الأمر الذي سيؤثر على طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأميركية مع هذه المحنة الإنسانية ومع الدول والمنظمات الدولية التي تبدو قلقة من احتمال فرض الهيمنة الأميركية المباشرة، على هايتي في مقابل هذا الزخم الهائل من المساعدات وجحافل الجيش التي صدرت لها الأوامر للحفاظ على الأمن والاستقرار

Loading