الديمقراطية… شرط لبناء الدولة العصرية

الإخلاص ضرورة لأي مجتمع يرغب في العيش بواحة الأمن والاستقرار والسلم الأهلي من دون ديمقراطية حقيقية تحترم وتصون كرامة الإنسان الفرد وحقوقه الأساسية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتأمين تماسك الجبهة الوطنية، وتوفير مؤسسات محكمة القوة، والبناء الشامل، تضطلع بمهماتها على نحو ممتاز في إدارة شئون الدولة والمجتمع.

فلا ديمقراطية حقيقية يمكن أن تنمو وتزدهر في أحضان مجتمع شمولي يمارس فيه الظلم والاستبداد.

وإذ يدعو الإعلان العالمي بشأن الديمقراطية الذي أقره الاتحاد البرلماني الدولي في (6 سبتمبر/ أيلول 1997) إلى تحمل دول العالم برمته مسئولية اعتماد معايير ومبادئ الديمقراطية التي أقرها الاتحاد، واحترام معاهدات ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة، حفاظا على توطيد الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، فضلا عن تهيئة المناخات المناسبة لإرساء دعائم السلام العالمي، فإنه يؤكد أهمية أن تستلهم جميع الحكومات والبرلمانات في العالم مضامين ومحتويات هذا الإعلان الذي تشدد أبرز نصوصه الأساسية على أن الديمقراطية هدف يقوم على القيم المشتركة للشعوب في المجتمع العالمي برمته، بصرف النظر عن الفروقات والاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي بذلك حق أساس لكل مواطن، ينبغي أن يمارس في ظل مناخات جيدة من الحرية والمساواة والشفافية والمسئولية، مع احترام التعدد في الآراء ومراعاة المصالح العامة في الدولة والمجتمع.

إن تحقيق الديمقراطية في أي مجتمع يقتضي أن تكون هناك حقوق شاملة تصون وتحترم كرامة الفرد وتضمن له المساواة والعدل، وشراكة كاملة وحقيقية بين الرجل والمرأة في إدارة شئون الحياة العامة وداخل مؤسسات الدولة والمجتمع، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ما يكفل لهما إثراء متبادلا نظرا لما بينهما من فوارق معينة.

وإن الديمقراطية الحقيقية في أي مجتمع يجب أن تقوم على حق كل عضو من أعضاء المجتمع – مهما كانت مكانته- في المشاركة في الرأي وفي صناعة القرار وإدارة الشئون العامة، ما يوجب بالضرورة وجود مؤسسات برلمانية دستورية على كل المستويات، وخاصة وجود برلمان يمثل جميع عناصر المجتمع وتتوافر لديه كل السلطات والصلاحيات التي تمكنه من التعبير عن إرادة الشعب عن طريق التشريع ومراقبة أعمال الحكومة ومكاشفتها ومحاسبتها على أفعالها أمام المجتمع.

وتقوم الديمقراطية الحقيقية على سيادة القانون ومباشرة حقوق الإنسان وتطوير التنمية وتعزيزها، وفي الدولة الديمقراطية لا يعلو أحد على القانون والجميع متساوون أمامه.

وإن من أبرز المهمات الأساسية التي تقع على عاتق الدولة ضمان حصول مواطنيها على كامل حقوقهم المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن ثم فإن الديمقراطية الحقيقية تنمو وتزدهر مع وجود حكومة شرعية وفعالة تتصف بالأمانة والشفافية والصدق، وتقوم على الاختيار الحر، والقدرة على تحمل المسئولية الوطنية.

ويجب على الدولة الديمقراطية تحقيق الحرية والمساواة والعدل والاستقرار والأمن في المجتمع وليس العكس، لأن توعية الناس وتحسين مستويات المعيشة للفرد تضمن حقوقه وحرياته الأساسية. وتنتعش الحرية وتكون في مستويات أفضل إذا تحقق للشعب قدر من المساواة الاقتصادية والفرص الاجتماعية المقبولة. وإن الحرية والديمقراطية هي الطريق الأمثل للإصلاح العام والتحول نحو التجديد والتحديث المطلوب لمواكبة العصر. فالمساءلة والمحاسبة والكشف عن مواضع الخلل والأخطاء الفادحة عناصر أساسية من عناصر الديمقراطية الحقيقية، ويصدق ذلك على كل من يشغل منصبا عاما، سواء كان منتخبا أو معينا أو غير منتخب، وعلى كل الأجهزة ذات السلطة العامة دون استثناء. وتتطلب هذه المساءلة أن يكفل للشعب حق الحصول على المعلومات التي تتعلق بأنشطة الحكومة، والحق في تقديم الالتماسات إلى الحكومة، والمطالبة بالإنصاف من خلال الآليات الإدارية والقضائية العادلة والنزيهة.

إن المؤسسات القضائية وآليات الرقابة المستقلة والمحايدة والفعالة هي الأجهزة التي تكفل سيادة القانون، وسيادة القانون ركيزة الديمقراطية. ولتمكين هذه المؤسسات والآليات من تأمين الاحترام الكامل للقانون وتحسين سلامة الإجراءات ورفع المظالم يتعين فتح الطريق أمام الجميع على قدم المساواة التامة لاستخدام الوسائل الإدارية والقضائية التي تكفل للناس حقوقهم، وتضمن احترام أجهزة الدولة وممثلي السلطة العامة وكل أعضاء المجتمع للقرارات الإدارية والقضائية، وغيرها من الإجراءات ذات الطابع الرسمي.

ويجب على الدولة الديمقراطية من أجل تقوية العدالة الدولية الجنائية ألا تغض الطرف عن معاقبة المسئولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الأساسية، حتى لو كلف ذلك ثمنا باهظا، فالعدالة يجب أن تحترم، والقصاص يجب أن ينال كل من ينتهك حقوق الإنسان.

ولا يمكن لأية عملية ديمقراطية أن تنمو وتزدهر إلا عندما يرغب الناس في احتضانها وممارستها واحترامها، وجعلها تصب في خدمة المجتمع برمته ومعالجة وحل همومه ومشاكله، وتحسين الظروف الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية للمواطنين جميعا من دون تمييز أو تفضيل، ما يتطلب من المجتمع أن يركز باهتمام فيما يبذله من جهود إنمائية على إشباع الاحتياجات الاقتصادية والمعيشية الأساسية للفئات الأقل حظا في المجتمع لضمان اندماجها الكامل في العملية الديمقراطية والخيارات الحرة.

وعلى رغم أن غالبية أنظمة الحكم في العالم تنسب نفسها إلى الديمقراطية، وتكرس مبادئها في دساتيرها، وتتذرع بسلطة الشعب وتطرح قضاياه المتعددة بمفهوم المشاركة في الحكم وليس بالنيابة عنه في صنع قرارات الدولة والمجتمع، فإنها لاتزال تشكو من الأزمات والمشاكل الكبيرة والمعقدة التي قد تعيق ضمانات حصول مواطنيها على كامل حقوقهم المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية العامة، وتبقي أجهزتها الأمنية حاضرة لردع أي تحرك شعبي من شأنه المطالبة بحقوق المواطنة المشروعة، وتعمل بصورة دائمة على تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع، ولذلك فإنها مطالبة اليوم بأن تستوعب كل دروس المسألة الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان على نحو جريء من جميع ثمار القوانين والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحضارية، وجميع الأساليب الإدارية المتقدمة التي تجسد قوانين الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي للدولة الديمقراطية الحديثة.

Loading