الوزير الأول يعيش وحيدا

قبل أسابيع عدة احتفل رئيس الوزراء الدنماركي السابق أنكل يانسن بعيد ميلاده الثالث والثمانين، بعد حياة سياسية حافلة بالإنجازات، قاد فيها حزبه الاشتراكي الديمقراطي على مدى أكثر من ثلاثين سنة قائدا نقابيا ومناضلا سياسيا، هذا عدا عن حكمه البلاد طوال اثنتي عشرة سنة متتالية، إضافة إلى توليه منصب رئيس منظمة الاشتراكية الدولية في فترة السبعينات من القرن الماضي.

شاء يانسن أن يكون الاحتفال بعيد ميلاده في قاعة المتحف العمالي الكبير في العاصمة (كوبنهاغن)، بحضور حشد من رموز وقيادات حزبه ورجال السياسة والاقتصاد والمثقفين والطلاب والعمال في البلاد، تأكيدا لانتمائه العضوي إلى الطبقة العاملة التي كرّس لها حياته النقابية والسياسية لأكثر من نصف قرن. وصفق الحضور طويلا وهم يشاهدون ويسمعون رئيس وزرائهم السابق، بعد أن أرهقت السنون كاهله، وهو يتحدث بصوت قوي مدافعا عن شعبه ومستقبل وطنه بالصلابة ذاتها التي اشتهر بها أثناء نضاله النقابي والسياسي، إذ كان – بحسب رأي الكثيرين – أفضل من قدم المعالجات الناجعة لمشكلات الدولة والمجتمع الدنماركيَّين، فكان شعاره الأثير: الحياة عطاء وعمل مستمر.

وبعد كل تلك الحياة الحافلة بالانجازات، يعيش يانسن حياة زاهدة متقشفة وحيدا في شقة متواضعة عبارة عن غرفتين وصالة جلوس في مساحة لا تتجاوز 69مترا مربعا، وهي ليست ملكا شخصيا له وإنما مؤجرة من شركة للإسكان الشعبي، وتقع في منطقة سوذهاون، الضاحية العمالية والميناء الجنوبي للعاصمة. هذه الضاحية التي يقطن فيها فقراء العمال وصيادو السمك والمهاجرون.

عاش يانسن في هذه الشقة طوال أكثر من نصف قرن مع زوجته وأبنائهما الأربعة، وظل متمسكا بالبقاء فيها حتى بعد تسلمه منصب رئيس وزراء البلاد، وأصر على رفض الإقامة في قصر ماريابور المخصص لإقامة رؤساء الوزارة.

ويقضي يانسن أيامه في قراءة كتب التاريخ والتراث والسياسة والفكر، ويخدم نفسه بنفسه في شقته بعد وفاة زوجته، إذ لا خدم ولا حراس، ويثابر على حضور الفعاليات السياسية والاجتماعية والمنتديات العامة ويتنقل بين مقرات حزبه الاشتراكي الديمقراطي للاطلاع على أمورها، ويسترجع ذكرياته بزيارة الأحياء الفقيرة والمجمعات السكنية التي شيدت في عهده للعوائل العمالية من أصحاب الدخول المحدودة.

ويقضي يانسن مشاويره اليومية، للتسوق وزيارة الأصدقاء مشيا على الأقدام أو عبر وسائل النقل العام، وزار يانسن معظم بلدان العالم في مهمات رسمية وأخرى شخصية لمساعي الخير وتوطيد الصلات مع الشعوب، وكان عادة ما يجلب الهدايا الرمزية وكتب التاريخ والسير الذاتية لمشاهير الأدب والسياسة والفكر.

الوزير الأول يانسن لا يمتلك أية ثروة مالية أو عقارا أو سيارة، فهو رجل لم يغره بريق المال، ولم يحلم في حياته بامتلاك القصور والفلل والسيارات والأراضي، ودأب على إنفاق مخصصاته المالية بصفته رئيس وزراء أو متقاعدا لاحقا على عمل الخير ومساعدة جمعيات الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الثقافية والتربوية.

وبالمناسبة، إن الوزير الأول السابق يانسن هو أحد جيراني المفضلين والمقربين، فشقته المتواضعة لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن شقتي، التي أسكنتني فيها الحكومة الدنماركية باعتباري واحدا من آلاف اللاجئين السياسيين الهاربين من بلدانهم الأصلية، ووفرت لهم الملاذ الآمن والسكن وفرص العمل والحياة الكريمة.

تلك الشقة التي تعتبر أجمل وأوسع من شقة الوزير الأول، وكلما جمعني به اللقاء بين حين وآخر وتبادلت معه الأحاديث، شعرت بتواضعه وطيبة قلبه وحبه للآخر.

وأذكر أني سألته ذات يوم، عندما قصدته للتوقيع على عريضة من أجل البحرين تدعم مطالب المعارضة باستعادة الديمقراطية والمواد المعطلة من دستور العام 1973 وعودة الحياة النيابية خلال سنوات انتفاضة التسعينات: «كيف تحلو لك الحياة وأنت تعيش في شقة متواضعة ليس فيها ما يدل على مكانتك وأهميتك بصفتك أول رئيس وزير في البلاد؟»، فأجاب: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، وهذه الكلمة وحدها تكفي لأن يكون الفرد قانعا بوضعه في الحياة حتى إن كان رئيس وزراء.

تميز يانسن من أقرانه من رؤساء الوزارة الذين تعاقبوا على حكم الدنمارك بأنه لم يكن يحمل أية شهادة جامعية عالية، بل إن أفكاره وثقافته انبثقت من أفكار الطبقة العاملة وثقافتها، ومن ينابيع الفكر الثوري والتراث الأصيل، ويعتبر حتى هذه اللحظة من أبرز مهندسي أروقة السياسة داخل حزبه الاشتراكي الديمقراطي، الحزب المعارض الأول للائتلاف اليميني، الحاكم حاليا في الدانمارك.

ألهمت سيرته الحياتية والسياسية الأجيال الشابة في الدنمارك وهم يتطلعون الى غد أفضل ومجتمع أكثر عدالة وخالٍ من العنصرية المقيتة، ورخاء اقتصادي وتعاون دولي، وكافأته حديثا نخبة من الفنانين والمثقفين الدنماركيين بتسجيل أغنية حملت اسمه ومجّدت نضالاته وسيرة حياته، انطلقت صادحة خلال احتفاله بعيد ميلاده الأخير، فألهبت مشاعر رفاقه القدامى وحوّلته في نظر الأجيال الجديدة إلى أسطورة حية.

ومن خلال مقاربتي شخصية هذا الرجل وسيرته، الرجل الزاهد بكل مغريات الحياة ومطامعها، شعرت بأننا في البحرين المتطلع شعبها إلى الحرية والديمقراطية والتسامح والحياة الكريمة، أحوج ما نكون إلى نماذجَ عصاميةٍ في الحياة والسياسة من أمثال المناضل الدنماركي أنكل يانسن.

Loading