في ذكرى رحيله (11 عام على الرحيل) عبدالرحمن النعيمي .. عاش مناضلا ورحل مناضلا من أجل خدمة القضية الوطنية وشعب البحرين

قبل 11 عام من الزمن، صدمت البحرين برمتها بخبر مفجع، وخرج الناس في شوارع البلاد والحسرة تملاء قلوبهم وافئدتهم، بعد توارد الانباء السريعة والعاجلة، عن رحيل المناضل الوطني والقومي العربي والاممي، عبدالرحمن محمد النعيمي ( محبوب الجماهير ) وأبو الضعفاء والفقراء في البحرين، وذلك في الاول من أيلول/ سبتمبر 2011 . خبر الموت هذا فجر صاعقة موجعة ومؤلمة لكل من رافق أو عرف أو سمع باسم عبدالرحمن النعيمي، أو ” سعيد سيف ـ اللقب الحركي ” الأمين العام للجبهة الشعبية في البحرين، وأول رئيس لجمعية العمل الوطني الديمقراطي ” وعد ” التي تأسست كأول جمعية سياسية معترف بها في البحرين وعلى مستوى دول الخليج العربية، هو القائد الوطني الكبير، وهو رمز المناضلين الأغر، الذي عاصر وشاهد الكثير من الاحداث في البحرين والمنطقة وعلى المستوى العربي والاممي. عاش حياة التقشف والتواضع الاخلاقي والانساني، والتسامح والتآخي والتضامن والمصير الواحد المشترك مع الآخرين. أحب الضعفاء والفقراء وعاش شجونهم وهمومهم، ودافع عن حرياتهم وكرامتهم وعزتهم ومطالبهم ضد الحرمان والاضطهاد والعسف العام بكل جرأة وشجاعة واستبسال. عاش غربة المنافي القسرية وهو لايملك أي شيء من الترف والنعيم غير الارادة والقوة والفخر المستمدة من دفاعاته الشرسة والاصيلة عن حاضر ومستقبل الوطن والشعب المسحوق والمضطهد. خبر مؤلم وموجع كان قد زف أيضا لعائلته المناضلة، التي هي أيضا ضحت من أجل البحرين وشعبها، وكذلك رفاق الطريق ـ ونحن منهم ـ الذين تربوا طبقا لقيم ومبادىء ونضال ودروس وتعاليم مدرسة النعيمي النضالية، التي تقول:” نعمل من أجل وطن حر وشعب سعيد، ولا يمكن أن يرجف فيه الخوف والأمل مطلقا ” .

تمر علينا اليوم الذكرى الحادية عشرة لرحيل الرفيق النعيمي، والوطن الحر الأبي والسيد، الذي ناضل وقدم كل غال ونفيس من أجل أن يكون قائما شامخا على أرض الواقع، تتقاذفه اليوم الرياح الصرصر العاتية من جهة الحكم ومؤسسة السلطة التنفيذية ودولة المخابرات في البحرين، الذين ما برحوا اليوم يفرضون قبضة فولاذية طاغية على جميع مفاصل الدولة والمجتمع بمفردهم وينتهكون الاعراف ويخونون الوعود والتعهدات الكثيرة ويخنقون الحريات وينغصون العيش الكريم على المواطنين. وشعب لا يشعر أبدا بالسعادة ويعاني من فقدان الآمل في الحياة الكريمة بسبب استمرار ضغوط الحياة المعيشية اليومية القاتلة، والمكابدة من أجل الحصول على كسرة الخبز، وضغوط التهميش والتمييز الطبقي والطائفي، والخوف والقلق من استمرار وتوسع جماهير الطابور الخامس الذي يمثله الغرباء المجنسين بصورة عشوائية، ولاسباب سياسية وديمغرافية، والجيوش الجرارة من العمالة الرخيصة الوافدة من جميع أنحاء العالم، وتكريس الوجود العسكري الاجنبي في البلاد، والغزوة اليهودية الصهيونية الغاشمة، التي اجتاحت طول وعرض البلاد، والتي أخترقت جميع الصفوف ومزقت صف الجبهة الداخلية، واستباحت كل شيء جميل ورائع في البحرين، وقضت بدورها المخالف للقيم والاعراف والاخلاق والمبادىء، على حلم التطلع الوطني الكبير تجاه مقاطعة الكيان الصهيوني وزوال دولته المصطنعة والمعتدية والغاصبة لارض فلسطين وتحطيم وتهجير شعبها العربي الاصيل .

وعلى امتداد ( 11 عام من الزمن ) بعد رحيل الرفيق النعيمي، ونشر رسالته المعتدلة والسلمية من أجل الاصلاح الحقيقي والجوهري والتنمية الوطنية في البحرين، مازال الحكم والسلطة السياسية الحاكمة، يسخرون من أمال الشعب في الحصول على الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان والتعايش السلمي المجتمعي الحقيقي، ويمضون غير آبهين بضرورة تحقيق الاصلاحات المطلوبة التي تعهدوا باصلاحها وتفعيلها على أرض الواقع انطلاقا من نصوص وبنود ميثاق العمل الوطني ومشروع الاصلاح، وبدلا من ذلك استغل الحكم والسلطة معا تسامح الشعب وهدوئه وسكونه بسبب قسوة البطش والقهر، وبسبب تصعيد شعار ” الويل والثبور وعظائم الأمور ” لكل من تسول له نفسه في الوقوف متصديا لمشاريع الحكم والسلطة والمطالبة بالتغيير الحقيقي والجوهري في البلاد، وباتت الاعمال الوحشية وممارسة القمع والتعذيب والقتل بالرصاص الحي وتحت وطأة التعذيب في السجون، منذ سحق حراك الرابع عشر من شباط/ فبراير 2011 هي العملة اليومية التي تتداولها أجهزة القمع البوليسية في البحرين في حربها الشرسة والقدرة على الحركة الوطنية والاسلامية المسالمة والمعتدلة .

وعلى مر التاريخ دائما ما كانت السلطة البحرينية ولا العائلة الحاكمة يكترثون بالاصوات الشعبية المطالبة بالتغيير الحقيقي والجوهري وبحقوق المواطنة المحقة والعادلة، وبحق المشاركة العملية والفعلية في عمليات صنع قرارات الدولة والمجتمع، وهما حتى بعد اقرار ميثاق العمل الوطني المزعوم التي صوتت لصالحه الغالبية الشعبية الساحقة، ووعدوا من خلاله الناس بانبثاق عصر جديد ونهضة اجتماعية واقتصادية جديدة تكتسح بها دول المنطقة والعالم، وتكون مثلا يحتدى، وعهد تسامح وتعايش سلمي بين الجميع، ضربوا بعرض الحائط جميع الاهداف الحقيقية والجوهرية والتطلعات التي تأسس عليها بناء مشروع ميثاق العمل الوطني، وأطلقوا العنان لمسيرة الاستحواذ الفئوي والطائفي على جميع مفاصل القرار في نطاق الدولة والمجتمع في مشاهد لا سابق لها بعد ما سمي بعهد التغيير، ورفضوا المصالحة الوطنية والجلوس على طاولة حوار وطني مسؤول لمعالجة وحل جميع الملفات الشائكة والساخنة، التي تسببت على امتداد عقود من الوقت في تراكم وتصاعد مستوى الازمات في البلاد .

عبدالرحمن النعيمي، كما عرفته :

سمعت الكثير والكثير عن شخص المهندس عبدالرحمن النعيمي، الامين العام للجبهة الشعبية في البحرين، وعن نضالاته الشرسة في وجه السلطة البحرينية ودولة المخابرات السرية القمعية والمرعبة، التي كان يقودها على امتداد قرابة نصف قرن من الزمن المرتزق البريطاني العميد المتقاعد ايان هندرسن، وشريكة في تلك الدولة الاستبدادية القمعية، خليفة بن سلمان بن حمد أل خليفة رئيس مجلس الوزراء، عندما كنت صبيا يافعا في البحرين خلال مرحلة النهوض الشعبي في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عندما كنت اشارك مع الجماهير في بعض التظاهرات الوطنية المطلبية، وعرفت أنه يعيش في المنفى القسري في الخارج، والتقيت به بشكل شخصي لاول مرة في بيروت في اواخر العام 1980، عندما لجئت اليها هاربا من بطش السلطة البحرينية وقمعها وجبروتها في قهر الناس وتعذيبهم، بعد شهور قليلة من خروجي من السجن، وكان بمعيته الرفيقين عبدالنبي العكري، ورضي الموسوي، واستغرق اللقاء لحظات قصيرة من الوقت، ثم تجددت اللقاءات بهم مرات عديدة ولا غرابة في ذلك فنحن من بلد واحد ونعمل معا في خندق واحد في ساحة النضال الوطني والاممي، فوجئت في الرجال الثلاثة برغبتهم الشديدة في مساعدتي، وتقديم العون لي في بلاد الغربة، ومن خلال معاملتهم لي والرغبة في احتضاني وجدت فيهم النخوة والشهامة والنزاهة والصدق، وبما في ذلك الاخلاص الشديد للقضية الوطنية وشعب البحرين، اضافة إلى الثقة والامانة وكرم الاخلاق والضيافة، وهاهم الآن الرفيقين، العكري والموسوي، وبعد تلك السنوات الطويلة ومعاناة الغربة القاسية والمؤلمة وزحمة المسؤوليات الملقاة على عواتقهم تجاه قضايا الشعب والوطن، لم تتغير جميع الاشياء التي ورثوها من عاداتهم وثقافاتهم ونضالاتهم .

وكنت قد تعرفت أكثر وأكثر على الرفيق النعيمي، من خلال لقاءات واجتماعات عدة حول القضية الوطنية، ووجدت فيه روح النخوة والشهامة وحسن السلوك والاخلاق والصدق والجدية في النشاط والعمل، وكرم الضيافة وجميع خصال المناضل البارز الفذ، وتكررت لقاءاتي به على ساحة بيروت ومن بعدها دمشق حيث كان يقيم هناك بشكل كامل، ومن خلال ذلك تعلمت منه الكثير والكثير في ما يتعلق بالثقافة السياسية وقضايا النضال الثوري، وبالرعاية والاهتمام الذي يحاول دائما وابدا أن يشجع عليه جميع الرفاق ويحثهم على بدل الجهد والعمل والعطاء المثمر، وكان يثق بي دائما، ويستشيرني في بعض الاحيان، حول بعض الامور المتعلقة بقضايا العمل والنشاط في صفوف الجبهة الشعبية، ويصطحبني معه في العديد من المؤتمرات والندوات والملتقيات السياسية وبعض الزيارات الخاصة لعدد من الشخصيات السياسية والمفكرين والمثقفين العرب والاجانب المقيمين في دمشق وبيروت، ويكون متواضع للغاية عندما يتحدث إلية أحد ويناقش ويظل يستمع بهدوء ثم يحلل ويزن الامور بموازين الثقة والجدية، ويحاول أن يجيب على الاسئلة وحتى لوكانت صعبة ومحرجة بكل بساطة ونزاهة بالغة ودهاء سياسي لكل سؤال كما هي البساطة والنزاهة والزهد الذي كان الرجل يعيشه في حياته اليومية العادية وفي الملبس والمآكل، والمسكن والتصرف والمعاملة الصادقة والجدية، وذلك بخلاف ما يمارسه غيره من قادة ورموز حركات التحرر العربية والاجنبية، سواء منهم المقيمين في بيروت أو دمشق أو عواصم عالمية أخرى، من تصرفات دالة على الانانية والطمع والجشع، ويعيشون حياة الاباطرة والثراء الفاحش .

فتح النعيمي، أبواب منزله في دمشق على مصراعيها لجميع المناضلين السياسيين والنشطاء الحقوقيين والمفكرين والمثقفين والفنانين والمبدعين، سواء كانوا من البحرينيين أو غيرهم من العرب أو القوميات الاخرى، ممن كانوا يطلبون منه حاجة أو مساعدة في شيء، فكان دائما يساعدهم ويمد لهم يد العون بواقع امكاناته الاخلاقية والانسانية، أو المادية المتواضعة مما لا يقبل أن يضحي به ويقدمه أحدا من الاثرياء وأصحاب رؤوس الاموال والثروات العظيمة .

تتلمذ على يده العديد من المناضلين البحرينيين والعرب ـ ونحن منهم ـ وبعض من هؤولاء يعمل اليوم في مراكز ومواقع قيادية هامة في عدد من المؤسسات الاهلية والرسمية على صعيد المجتمع والدولة.

وعندما عاد إلى البحرين في العام 2001 بعد أكثر من 35 سنة في المنفى القسري، في ظل الانفتاح السياسي، عرضوا عليه المناصب الرسمية العالية والفلل الفاخرة على الطراز الغربي، والاموال الطائلة وكان قد أصر بشدة على رفضها، وأصر أن تبقى صورته نظيفة وناصعة، ومخلصا ومناضلا حقيقيا مدافعا شرسا عن جوهر القضية الوطنية وحقوق الضعفاء والفقراء والمضطهدين في البحرين وحول العالم، في نفس الوقت الذي سال فيه لعاب البعض وتقربوا للسلطة من دون أي تردد أو أي ذرة من الخجل، لكي يحصلوا على مثل هذه الامتيازات أو القليل من بعضها وذلك تحت ذريعة انهم يستحقونها كتعويض عن سنوات تغربهم وعذاباتهم ونضالاتهم من أجل القضية الوطنية، فيما هو ظل يصر وبشدة على رفضها وطالب بها لغيره ممن كانوا يستحقونها من قادة النضال الوطني الشريف وضحايا التعذيب والنفي القسري والشهداء الابرار الذين سقطوا دفاعا عن الديمقراطية والحريات في البحرين، والسجناء الذين قضوا سنوات طويلة في غياهب سجون ومعتقلات النظام الخليفي، ومثل هذا الموقف الوطني الشريف والجليل، سلكته أيضا قيادات سياسية وطنية معروفة، كانت تعيش في المنافي القسرية على امتداد عقود طويلة من الزمن، وتضررت كثيرا من هول تعسف وقهر هذا النظام السياسي في سنوات تلك الحقبة السوداء المعتمة، ونشير هنا لبعضهم من أمثال المهندس الرفيق عبدالنبي العكري، والدكتور عبدالهادي خلف، والدكتور سعيد الشهابي، وانا، ممن كان قد عرضت عليهم مناصب مرموقة في بعض القطاعات المدنية والرسمية، وكذلك الامتيازات، وتمسكوا بافكارهم ومناهجهم ومبادئهم النضالية الثورية والاخلاقية، ورفضوا أن يقدموا أنفسهم على حساب جميع ضحايا التعذيب والشهداء الابرار والمتضررين من سنوات القمع المعتمة عندما أصروا على رفضهم لقبول مثل هذه المغريات الكبيرة والامتيازات والرشى الزائلة والتعويضات، .

هكذا عرفت المرحوم النعيمي، القائد والوالد والرمز .. لروحه الرحمة والمغفرة والخلود الابدي في جنات الخلد والنعيم مع الخالدين والابرار .

هاني الريس

2 أيلول/ سبتمبر 2022

Loading