أيام قاسية ومرعبة بعد احتلال القوات الاسرائيلية “بيروت” في 1982

كيف ساهمت الجبهة الشعبية في البحرين في الخارج في مساعدة الرعايا البحرينيين المحاصرين في بيروت ومناطق أخرى في لبنان ؟

في 4 حزيران/ يونيو 1982، اجتاحت القوات الاسرائيلية جنوب لبنان، بعد سلسلة من الغارات الجوية الكاسحة والواسعة النطاق، التي شنها سلاح الطيران الحربي الاسرائيلي تحت شعار (سلامة الجليل) وذلك تحت ذريعة “الرد الرادع” على محاولة الاغتيال، التي تعرض لها سفير الكيان الصهيوني في لندن (شلوموا أرجون) على أيادي عناصر مسلحة، قيل في وقتها أنها كانت تابعة لتنظيم صبري البنا (أبو نضال) مؤسس المجلس الثوري في حركة فتح، والمنشق عن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ومن خلال تواطء صريح ومكشوف، من قبل القوات اللبنانية، والتحالف الانعزالي الماروني في لبنان، التي أسسها بشير الجميل، في العام 1976 كذراع عسكري للجبهة اللبنانية المارونية الموحدة، ومن خلال مباركة وتشجيع أميركي مشروط بعدم تجاوز القوات المسلحة الاسرائيلية مسافة 40 كيلومترا من الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين، ولكن خطوات الاجتياح المدمرة، قد تجاوزت كل مدياتها المعلنة في بنود الخطة الاسرائيلية الاميركية المتفق عليها من الطرفين لعملية الاجتياح، وذلك نتيجة قرار طائش اتخده بشكل منفرد ومتسرع وزير الدفاع الاسرائيلي في ذلك الوقت، أرييل شارون، وفي لمح البصر بعد تحطيم خطوط الدفاع الفلسطينية واللبنانية في جنوب البلاد، واصلت جحافل قوات جيش الدفاع الاسرائيلي زحفها من دون توقف، إلى مشارف غرب بيروت، وفي لمح البصر شقت طريقها في عمق العاصمة اللبنانية في حصار محكم استمر لعدة أسابيع، ودفعت خلالها فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية مشتركة ثمنا باهظا للتصدي للالة العسكرية الاسرائيلية الجبارة، ووضعتهم فريسة سهلة للقوى الانعزالية المارونية المنتصرة في هذه الحرب المدمرة والمؤلمة.

في ذلك الوقت كانت فصائل المعارضة البحرينية (الجبهة الشعبية في البحرين، وجبهة التحرير الوطني البحرينية، والجبهة الاسلامية لتحرير البحرين) تتخذ من بيروت ملاذا آمنا لممارسة نشاطاتها التنظيمية والقتال الشرس في ساحة العمل السياسي ضد سياسات السلطة البحرينية، وفي غمرة الحرب التي فاجأت الجميع، أخذت تنتاب قوى المعارضة البحرينية مثل غيرها، ممن كانوا مقيمون في بيروت هواجس كبيرة ومقلقة ومخيفة حول مستقبل أوضاعها الاقتصادية والامنية، في ظل هذه العملية المشؤومة، خاصة بعد أن صادر المسلحون الموارنة والصهاينة مساكن اقامتنا، وأستولوا على الممتلكات العينية بفرط القوة، وأصبحنا بعد ذلك في حيرة من أمرنا ونبحث عن ملاذات آمنة وبعيدة عن عيون الجنود الصهاينة وميليشيات القوات اللبنانية، التي عرف عنها اثارة الرعب في نفوس اللبنانيين المناهضين لسياساتها الانعزالية الطائفية، والتي كانت قد سيطرت بشكل كامل وموسع بالتعاون مع الجنود الصهاينة، على زمام الامور في بيروت، وأقدمت على ارتكاب أبشع المجازر الوحشية ضد الاخوة الفلسطينيين واللبنانيين والعرب المقاومين للاجتياح، والتي إعتبرتهم بمثابة أعداء للوطن ويستحقون المواجهة والموت، وعندما أصابنا آلاذى، أخذنا نتنقل بشكل سري في أماكن يفترض انها آمنة في ضواحي بيروت الغربية، إلى أن إنتهى بنا الوضع الامني المخيف، إلى التفكير في مغادرة الديار اللبنانية بشتى الطرق الممكنة والسفر إلى دمشق مع القوافل البشرية المتجهة إلى سوريا. ولكن يومها كانت جحافل قوات جيش الدفاع الاسرائيلي وحلفاؤها في القوات اللبنانية وحزب الكتائب اللبناني، وحزب الاحرار الشمعوني والتحالف الانعزالي الماروني بكل قواتهم العسكرية الضاربة، يفرضون حصارا محكما على جميع المداخل والمخارج المؤدية إلى سوريا، الامر الذي جعلنا نتراجع تماما عن تنفيد تلك الفكرة، ونبقى متخفين في مختلف مناطق بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية لعدة أيام، وذلك من دون أن نستطيع التنقل فيها سوى في حالات الضرورة القصوى، نتيجة استمرار عمليات القصف والمداهمات اليومية و قرار منع التجوال، الذي استمر يحث الخطى على امتداد فترة طويلة من الوقت .

في مشهد المعارك الضارية بين الفدائيين الفلسطينيين والحلفاء اللبنانيين والقوات الاسرائيلية والمارونية، ظهرت العاصمة اللبنانية بيروت، كما لو أنها مجرد مدينة أشباح، بعد أن كانت بمنزلة مدينة أحلام ومنارة للثقافة والعلم والتسامح والاخوة والمصير، وطواحينها أخذت تطحن أرواح الناس، وبعض ما تبقى لها من تراث، ولم تشبع الافواه الفاغرة للمسلحين المصطادين في المياه العكرة، من مختلف الفصائل اللبنانية والفلسطينية وغيرها، من عمليات السلب والنهب والقتل على الهوية، حتى أصبح كل شيء تقريبا في ذلك الزمن الصعب واقعا مستباحا. وبالنسبة إلى فصيل الجبهة الشعبية في البحرين فقد أدرك أن مهمة البقاء في لبنان أصبحت شاقة وخطيرة للغاية، فقررت القيادة وبشكل جماعي مغادرة لبنان على وجه السرعة ومهما كلف الثمن، ولكن قبل هذا القرار كان الرفيق، رضي الموسوي وعدد من الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب العمل العربي بقيادة هاشم علي محسن، وبعض المتطوعين العرب أتذكر من بينهم الشاعر السوري نوري الجراح، وسامي الجارودي، والشاعر العراقي كريم عبد، والطالب في كلية الطيران السوداني الفاتح عيسى، وانا، نشارك جميعنا في القتال ضد العدوان عبر الدوريات العسكرية المشتركة لفصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت تجوب شوارع وأحياء بيروت، وداخل موقع حرم الجامعة الاميركية، حيث كانت تتمركز هناك وحدة قتالية صغيرة مكونة من عدة جنود ومدفعية هاون 500 للتصدي لهجمات وقدائف الصواريخ قصيرة المدى، التي ظلت تطلقها البواخر الحربية الاسرائيلية في اتجاه (منطقة ساحل الريفيرا وعين المريسة) التي شهدت أعنف المعارك الشرسة، وذلك من ضمن الواجب الانساني والنخوة العربية، والروح التضامنية مع الشعبين الشقيقين الفلسطيني واللبناني، وإعترافا بالجميل التي قدمته لنا مدينة بيروت وأهلها، وكذلك الاشقاء الفلسطينيين، باحتضانهم وحبهم لنا جميعا وتضامنهم معنا في ذلك الزمن الصعب، عندما كنا ننضاضل في سبيل القضية الوطنية البحرينية. غير أن وطأة الاجتياح الغاشم، التي أنهكت مختلف قوى التصدي والمقاومة العربية في لبنان، مزقت وحدة وشمل كل هذه الفصائل، وعملت على تشتيت عناصرها المقاتلة والمقاومة، حتى أحكمت القوات الاسرائيلية قبضتها الفولاذية على أول عاصمة عربية تسقط في الحروب العربية/ الصهيونية، ولم تكن لغالبية حكومات الدول العربية أية مواقف أخوية مشرفة تقف إلى جانب محنة الاشقاء الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، في تلك الحرب الكاسرة والمدمرة، سوى بيانات التنديد والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني عن جوع .

بعد فترة الهدوء النسبي المشوب بالخوف والقلق، الذي سبق ذروة العاصفة، كنا مثل غيرنا من المواطنين العرب والاجانب المقيمين في لبنان، نفكر في كيفية الافلات من المصير المجهول، والخروج من محنة بيروت القاسية والمؤلمة، الى أية عاصمة عربية أو أجنبية تكون ملاذا آمنا لنا، لان أستمرار بقائنا في لبنان في ظل الظروف الامنية الصعبة سوف يعرضنا بالتأكيد إلى مخاطر كبيرة وغير محمودة العواقب، خاصة ونحن في ذلك الوقت بالذات لانحمل سوى وثائق وجوازات سفر بحرينية منتهية صلاحيتها القانونية، حيث كانت سفارة البحرين في بيروت، على الدوام ترفض تجديدها وتهدد بسحبها وإلغائها كعقاب لنا على معارضة السلطة البحرينية. كانت سفارة البحرين في بيروت تعيش حالة مطلقة من الاهمال، وعدم المبالاة بأوضاع الرعاية البحرينيين المقيمين في ربوع لبنان، وعدم تقديم أية تسهيلات أو خدمات خاصة لانقاد حياتهم في ظل الحصار والتطورات الامنية الخطيرة والصعبة، وكان طاقم السفارة البحرينية برمته قد جمع حقائبه وغادر بيروت، ومن دون ذرة خجل من دعم الرعايا البحرينيين ومساعدتهم وانتشالهم من تلك المحنة، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، بادرت اللجنة التنفيدية للجبهة الشعبية في البحرين في الخارج، بوضع خطة احصائية للرعايا البحرينيين المتواجدين في لبنان ـ طلاب وطالبات الجامعات والمعاهد وسواح ومتلقوا العلاج، من أجل تقديم بعض التسهيلات الضرورية الملحة ولو بشكل زهيد لهم، وإجلاء الراغبين منهم إلى دمشق، على نفقة الجبهة الشعبية في البحرين، التي كانت حريصة جدا على تحمل مسؤولياتها في الشؤون العامة، في النضال الوطني وخدمة المواطن البحريني في أي مكان في العالم. كان رضي الموسوي وأنا، بعد تلقي التوجيهات من قيادة الجبهة لدعم الرعايا البحرينيين المحاصرين في بيروت ومختلف المناطق اللبنانية التي ظلت تتعرض للحصار الامني، نتحرك بشدة ونسأل عن أي مواطن أومواطنة من البحرين محاصرين في بيروت من أجل مساعدتهم للخروج منها، رغم كثرة المخاطر الامنية الواضحة، التي واجهتنا ونحن نبحث بين ركام مباني بيروت وأزقتها وحاراتها ومقاهيها وفنادقها الخاوية من زبائنها وروادها، عن أي مواطن أو مواطنة، من الذين يعانون من الحصار، وتخلت عنهم سفارة البحرين وتركتهم هائمين على وجوههم في مهب الرياح العاتية في ظل الاجواء المخيفة في الحرب، ولا يعرفون كيف يخرجون من محنة الحصار الظالم، التي أوقعتهم فيه حرب الاجتياح الضروس.

بعد أن إستكملنا، رضي الموسوي وأنا، جميع الأمور والاجراءات المترتبة على مشروع مغادرة الديار اللبنانية، إلى سوريا، وتأكدنا من مسارات الطرق الآمنة، التي يمكن أن نصل من خلالها، من بيروت إلى مدينة طرابلس (شمال لبنان) حيث كانت طريق جبل لبنان ووادي سهل البقاع مقطوعة ومطوقة بشكل محكم، من قبل عناصر القوات اللبنانية المدعومة بجحافل جنود وضباط جيش الدفاع الاسرائيلي، والتي كانت قد وضعت حواجز كثيرة وفرضت الكثير من الرشاوى (الخوات) على قوافل السيارات المغادرة نحو جبل لبنان والبقاع الغربي عبر شريط الطريق الطويلة المؤدية إلى مناطق جبل لبنان بحمدون وظهر البيدر.

في 30 حزيران/ يونيو 1982 استقلينا (رضي الموسوي، وليلى فخرو وبناتها عايشة ومنيرة، وكوثر التيتون، التي كانت وقتها مبتعثة في دورة دراسية من قبل وزارة الصحة البحرينية (بقسم التمريض بالجامعة الاميركية في بيروت) وأنا، استقلينا سيارة تاكسي، نقلتنا بدورها من بيروت إلى دمشق، عبر حاجز البربارة، التي كانت تسيطر عليه عناصر النخبة من ميليشيا القوات اللبنانية المارونية، وقد استطعنا أن ننفذ وبقدرة قادر من خرم الابرة وأنياب عناصر هذه المليشيا العميلة، باعجوبة، حيث لا توجد بحوزتنا وثائق شخصية، ولا جوازات سفر صالحة، وكانت الاقدار الالهية قد فعلت فعلها في تلك اللحظات الصعبة والقاسية. انتقلنا مباشرة من حاجز البربارة المخيف والمقلق، التي تسيطر عليه عناصر القوات اللبنانية المسلحة والعصابات المارونية الفالتة من عقالها الى مدينة طرابلس في شمال لبنان، بعد جهد جهيد، ومنها عبرنا الحدود السورية إلى مدينة حمص (شمال سوريا) التي وصلنا إليها في حوالي الساعة الثامنة مساءا وتناولنا في أحد مطاعمها الشعبية وجبة العشاء، ثم قطعت بنا السيارة مسافة ثلاث ساعات تقريبا حتى وصلنا إلى العاصمة دمشق في نصائف الليل بعد رحلة طويلة وشاقة ومضنية، إنتهت كل متاعبها وأوجاعها في رحاب بيت المناضل الوطني والاممي، عبدالرحمن محمد النعيمي، الذي استقبلنا بمعية زوجته أم أمل وجميع أفراد العائلة الكريمة، بكل رحابة صدر وقاموا بكل واجبات الضيافة وأصول الكرم العربي، الذي يليق بمستوى نضالات وتضحيات هذا الرمز الوطني الكبير . كيف لا وقد كان بيت النعيمي، يعتبر دائما ملاذا يستقبل فيه الكثير من البحرينيين، والمناضلين العرب والاجانب، المقيمين في دمشق ومن اللاجئين اليها.

حيث كان بيت النعيمي في حي المزرعة بدمشق، هو عبارة عن مقر لتنظيم الجبهة الشعبية في الخارج، ففيه تتم الاجتماعات الاسبوعية للجنة قيادة الخارج، واللقاءات مع القادمين من البحرين، أو من أي مكان حول العالم، وفيه تتم الدورات السياسية الحزبية والتثقيفية، وفيه تجهز ارساليات البريد، إلى البحرين، والمناطق الأخرى، وفيه يتم تحرير وإخراج نشرة 5 مارس ومطبوعات الجبهة الشعبية في البحرين ثم نشرة الأمل ومطبوعات لجنة التنسيق المشتركة واجتماعات لجنة التنسيق، وفيه يستقبل وفود حركات التحرر الوطني العربية والعالمية بمختلف تلاوينها، وكذلك المناضلين، والاصدقاء

هاني الريس
18 سبتمبر 2023

Loading