أيام حلوة ومرة عشتها في أوكرانيا تحت قصف المدافع والطائرات في حرب لا يُعرف لها حدود

في 1 شباط/ فبراير 2022 غادرت مدينة أوسترفيس البولندية، التي تبعد قرابة ساعتين ونصف الساعة عن الحدود الأوكرانية، في مهمة خاصة في أوكرانيا، ووصلت مدينة لفيف عاصمة الثقافة في أوكرانيا، قرابة الساعة السادسة في المساء. تجولت بصحبة إحدى الزميلات الأوكرانيات، في شوارع المدينة وقمنا بزيارة بعض معالمها الأثرية التاريخية، تحت درجة حرارة بلغت في ذلك المساء قرابة 4 درجات تحت الصفر، وكانت الثلوج الكثيفة تغطي معظم الطرقات، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك حركة دؤوبة في أوساط الناس، الذين كانوا يتجولون في الشوارع والساحات العامة، أو يرتادون المحال التجارية والمقاهي والمطاعم على اختلاف مشاربها. كان الناس في لفيف يعيشون حياة عادية مطمئنة، كل شيء في المدينة ظل يعمل بشكل طبيعي وعلى ما يرام، وذلك بالرغم من جميع الأنباء المتوترة التي كانت تصل إلى مسامع المجتمع عن تطورات الأوضاع العسكرية والأمنية على الجبهة الشرقية من البلاد حيث كانت القوات المسلحة الروسية المؤلفة من 150 ألف جندي مقاتل تقريبا، ماضية في استعداداتها المباشرة لغزو البلاد بين ليلة وضحاها.

وجوه غالبية الناس غير عابسة وغير مرتجفة أو خائفة في لفيف، وكانت البهجة مرتسمة دائما على الوجوه، فهم يخرجون إلى الشوارع والساحات للهو والطرب، وهي منتشرة بكثرة في قلب المدينة القديمة. هم لا يشعرون بضيق الأفق ولا يتخوفون من نذر الحرب، بل وحتى أن غالبيتهم لم يصدقوا بأن الأمور ستسوء بهذه الصورة الجنونية العشوائية المرعبة. كان بعضهم يقول إن ما يتحدث عنه الروس هو ليس أكثر من مجرد بث الرعب في نفوس الأوكرانيين لكي يمتعضون من قادتهم القوميين المتشددين، الذين يمسكون بقبضة فولاذية على جميع مفاصل القرار في الدولة والمجتمع، وتريد روسيا إزاحتهم عنوة سواء بواسطة السلم أو بجرهم إلى حرب ضروس مفروضة لا أحد يعرف نهايتها. والبعض الآخر يقول إن الحرب حتى لو بدأت بالفعل فإن أيامها ستكون معدودة ولن تصل مدياتها إلى أبعد من حدود الجبهة الشرقية الملتهبة أساسا منذ عدة سنوات مضت، والتي ظلت تتمركز فيها قوات الانفصاليين الأوكرانيين في إقليم دونباس الذين يحاربون الحكومة المركزية، وتحديدا في أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، بعد اعلانهما الانفصال عن الحكومة الأوكرانية المركزية. وبصورة عامة لم نجد أحدا في المدينة بدى وكأنه مستسلما للإحباط فلا يعجز عن الخروج للشارع، وبهذا فقط يمكن تفسير نسبة الهدوء والسكينة والاستقرار الذي ساد مدينة لفيف، في الأيام الجميلة والرائعة التي سبقت العملية العسكرية الكارثية في فجر الرابع والعشرين من شباط/ فبراير 2022 حين اجتاحت القوات المسلحة الروسية شرق البلاد في محاولة منها للتقدم بعيدا نحو بعض القرى والمدن وصولا إلى العاصمة كييف، بهدف السيطرة عليها واسقاط الحكومة المركزية المنتخبة انتخابا شعبيا، والإعلان عن قيام حكومة أوكرانية بديلة تكون موالية للقيادة الروسية.

وفي فجر ذلك اليوم استيقظ الناس في مدينة لفيف، ونحن منهم ـ على وقع صفارات الانذار للتحذير من أية غارات جوية مباغتة تقتحم سماء المدينة، وكذلك أصوات سيارات الاسعاف، وعربات قوات الدفاع المدني والمتطوعين التي كانت تجوب شوارع المدينة وساحاتها المترامية الأطراف، وتدعو الناس عبر مكبرات الصوت، إلى التحلي بالصبر واتخاذ الحيطة والحذر من أي هجوم خاطف ومباغت من جانب القوات المسلحة الروسية، أو من بعض أنصارها المحتملين المتواجدين في المدينة. الناس يعيشون حالة قلق وذهول وإرباك مشوب بالخوف في تلك الساعات المبكرة المزعجة والمشحونة بمشاعر الصدمة القاسية. وعلى الرغم من ذلك كله كانت تحركات الجماهير مستمرة وتحث الخطى في العديد من شوارع المدينة وساحاتها وفروعها الضيقة، ولاسيما في القلب النابض لها في ساحتي البلدية المركزية ومجمع الأوبرا، حيث تتجمع اعداد كثيرة من الناس للجلوس على الكراسي وعلى درجات المباني السكنية المتداعية أو الجلوس في المطاعم والمقاهي يحتسون القهوة والشاي الساخن بتلذذ في ساعات منتصف الصباح، وحتى ساعات منتصف الليل ويستمتعون بسماع اصوات المغنيين والفرق الموسيقية الشعبية، وكان البعض يخيمون بالقرب من مبنى بلدية المدينة على الثلج، والكثير من الشباب والشابات كانوا يتزحلقون على الثلج في ساحة سباق خصصتها لهم ادارة البلدية، وشيئا فشيئا ظلت تنحسر حدة الحركة في ساعات المساء مع إغلاق العديد من المحال التجارية والمطاعم والمقاهي أبوابها في فترة تسبق مواعيدها المعتادة. وفي اليوم التالي أعلنت الحكومة عن قرار فرض حالة الطوارئ في عموم البلاد، وبذلك تقلصت تحركات الناس في المدينة إلى أكثر من النصف، مع إغلاق شبه شامل للأسواق والمحال التجارية والشركات والبنوك، ومختلف المؤسسات والدوائر الرسمية باستثناء الفروع الأمنية ومخافر الشرطة والمخابرات والمراكز الصحية العامة والخاصة، وبعض الفنادق الكبيرة الراقية ومختلف وسائل النقل الداخلية والخارجية المتجهة للمناطق المختلفة في عموم البلاد.

وعلى مدى الأيام الاربعة الأولى من نشوب نيران الحرب، شوهدت في مختلف أنحاء مدينة لفيف طوابير المواطنين والمقيمين الذين ظلوا ينتظرون سحب ودائعهم وأموالهم من البنوك، ومن مراكز الصرف الآلي المنتشرة بكثرة في ربوع المدينة. وبصورة تدريجية تلاشت من الأسواق الشعبية ومراكز التسوق العامة، العديد من السلع الاستهلاكية الأساسية اليومية بما في ذلك الخبز واللحوم والمياه والمشروبات الروحية، وارتفعت أسعار تلك المواد إلى الضعف، وذلك بسبب الاقبال المتزايد والواسع من الناس على الشراء لتأمين أسباب الحياة المعيشية اليومية وتخزين ما يمكن تخزينه من جميع تلك المواد للمستقبل الذي لم تعرف له نهاية بالضبط. استمر الخوف والقلق يحث الخطى في جميع انحاء تلك المدينة الوديعة والتي لم يطالها أي تفجير أو قصف صاروخي مشهود من جانب القوات المسلحة الروسية، سوى محاولة إنزال فاشلة وحيدة تصدت لها مدفعية الجيش الأوكراني وأجبرتها على التراجع. ولكن بسبب تواتر الأنباء عن هجمات صاروخية وتحليق للطيران الحربي الروسي ربما قد يأتي مباغتا وبصورة عشوائية، في لحظات عابرة من الوقت، أصبحت شوارع المدينة شبه مقفرة ولم تعد بعد ذلك الابتسامة مرتسمة على وجوه الكثير من الناس بعد أن بدأ أصحابها يشعرون بفقدان الأمن وعدم الاستقرار وانقطاع الأرزاق وشحة الغذاء والدواء الضروري الملح المطلوب. ما من مواطن أوكراني أو غريب يقيم في المدينة يصادف شخصا آخر إلا ويستفسر منه عن امكانية الهروب من جحيم وأهوال الحرب إلى الملاذات الآمنة في الداخل أو في الخارج. يبادر الناس بعضهم البعض قائلين ” يبدو أن هذه المدينة هي أفضل ملاذ حاليا في أوكرانيا حيث لم تخترقها بعد أي من شرارات الحرب” و ” إن جميع دول الاتحاد الاوروبي، التي تعارض الاجتياح الروسي، ترحب بجميع النازحين الأوكرانيين وحتى المقيمين في أوكرانيا، وتوفر لهم الملاذات الآمنة والاستقرار ” ولذلك لا توجد هناك أي مشكلة معقدة للنزوح نحو تلك المناطق إذا ما توفرت كافة شروط السفر نحوها.

والحقيقة، أن الحكومة الأوكرانية بالرغم من كافة المناشدات والدعوات التي وجهتها لجميع المواطنين والمقيمين على الأراضي الاوكرانية بالتحلي بالصبر وعدم التفكير في النزوح للخارج، مع مطالبتها لهم بحمل السلاح والتطوع للدفاع عن حياض الوطن، أخذت علما بأن الآلاف، بل الملايين من الأوكرانيين والأجانب المقيمين، هم على استعداد لمغادرة البلاد لو أن الغرب قد فتح لهم الأبواب لاستقبالهم واحتضانهم بشكل واقعي وجدي. ولهذا السبب فأن الآلاف شدوا الرحال منذ اليوم الأول للاجتياح، واصطفوا في أرتال لا تنتهي أمام محطات القطارات والباصات ومختلف وسائل النقل العامة والخاصة، وكان الازدحام في وقت الذروة خانقا وعسيرا على العديد من الناس وبخاصة النساء والأطفال. وفي غمرة هذا الحدث وفرت السلطات الأوكرانية وسائل نقل مجانية لنقل النساء والأطفال ومن كبار السن ممن يرغبون بمغادرة الأراضي الاوكرانية نحو حدود دول الجوار، بولندا ومولدوفا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر، مع العلم كان العديد من الناس قبل هذا الرحيل المؤلم والقسري يطمحون بأن تكون هناك مفاوضات لوقف نزيف الحرب وسفك الدماء، ولكن مع تعسر مفاوضات السلام بين طرفي الصراع، وهطول هذا الكم الهائل من الرصاص الذي بلغ ذروته في الأيام اللاحقة للاجتياح، فأن الطموح بالسلام قد يطول إلى أمد غير معروف. ولذلك فقد بلغ عدد النازحين من اوكرانيا إلى بولندا وحدها أكثر من مليون شخص في غضون عشرة أيام من الحرب، وبهذا وصف المفوض السامي لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فيليو غراندي الوضع المأساوي للنازحين بأنه أزمة اللاجئين الأسرع نموا في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية . في اليوم الرابع من الحرب، تأكد لي بأن البقاء في أوكرانيا هو بمثابة مخاطرة كبرى بالنفس أو انتحار، وكانت زميلتي ماري الطالبة الجامعية الأوكرانية، التي رافقتني طوال أيام رحلتي في لفيف، وتضامنت معي في وقت المحنة، تلح عليّ بمغادرة البلاد في أسرع فرصة ممكنة من أجل عدم مواجهة ما هو أصعب وأشد خطورة في قادم الأيام من جحيم وأهوال الحرب . وإذا ما تعسر ذلك فإنها كانت على أتم الاستعداد للعمل على مساعدتي، وذلك من خلال توفير ملاذا ربما يكون آمنا لي مع عائلتها في قريتهم الصغيرة النائية، التي تبعد قرابة ثلاث ساعات ونصف الساعة عن مدينة لفيف، في منطقة بعيدة عن ساحات القتال على خط الجبهة .

وبعد تفكير عميق في الأمر، وبعد إصرار العديد من الاصدقاء الاعزاء الذين لم يتوقفوا ساعة واحدة عن الاتصال بي للاطمئنان والتضامن معي في محنة الحرب، على ضرورة مغادرة اوكرانيا وفي أسرع فترة ممكنة، قررت أن أشد الرحال مع قوافل النازحين المغادرين نحو الحدود الاوكرانية ـ البولندية، وفي البداية ذهبت لشراء تذكرة سفر إما أن استقل القطار أو الركوب في الحافلة، وعندما وصلت إلى محطة قطار المدينة، شاهدت هناك بأم العين طوابير لا تحصى ولا تعد من العوائل والأشخاص الذين يفترشون الارض ويتكومون على صناديق شراء التذاكر. كانت اعداد التذاكر في الحقيقة شحيحة، بعد ان بيع منها المئات على الافواج الهائلة من النازحين، وكانت أسعارها مرتفعة بشكل جنوني، ولعبت السوق السوداء دورا بارزا في مبيعات تلك التذاكر، ولكن في نفس الوقت أعلنت السلطات الاوكرانية عن وجود وسائل نقل عامة ومجانية لنقل النازحين لعدة مناطق حدودية، ولكنها اشترطت فقط على ركوب النساء والأطفال. وبعد معاناة كبيرة ومضنية في البحث عن وسيلة نقل مهما كلفت من ثمن، صادفت ثلاثة أشخاص أفارقة من نيجيريا كانوا يتلقون علومهم في جامعة خاركيف، ثاني مدن البلاد التي ظلت تتعرض للقصف الصاروخي والمدفعية الثقيلة من قبل القوات المسلحة الروسية منذ اليوم الأول للاجتياح. هم ايضا يبحثون عن فرصة مؤاتية للنزوح، اوتفقنا جميعا على استئجار سيارة تاكسي كي تنقلنا إلى الحدود الأوكرانية مع بولندا، ورغم أن سعر التاكسي كان مكلفا للغاية إلا أننا أصررنا على مغادرة مدينة لفيف قبل حلول الظلام والتقيد بقرار منع التجوال في المدينة، وقبل أن يحدث لنا أي مكروه يمكن أن يقطع علينا طريق المغادرة. وخلال الطريق التي قطعتها بنا سيارة التاكسي، والتي استغرقت مسافتها ساعة ونصف الساعة قبل أن تصل بنا إلى نقطة التفتيش العسكرية، التي أمرنا فيها حرس الحدود بالسير على الأقدام مع الحشود التي لا تمتلك أية وسيلة نقل شخصية أو من ضمن ركاب الحافلات. مشينا مع الحشود الغفيرة على الأقدام لمسافة تبلغ مابين 35 و40 كيلومترا باتجاه معبر مديكا الأوكراني، ومنه بالتالي إلى معبر شمشلة البولندي، ورأينا خلال الطريق اصطفافا طويلا للسيارات الخاصة وكذلك الحافلات العمومية، وحشودا كبيرة من النازحين الذين ظلوا يمشون على الأقدام يتدافعون ويتسابقون للوصول المبكر إلى نقطة العبور في درجة حرارة بلغت قرابة 3 درجات تحت الصفر وفي جو ممطر ومثلج. وكثير من الاشخاص أعياهم التعب والارهاق، واضطروا للوقوف لفترات طويلة تحت وطأة البرد القارس، والبعض الآخر ترك ما هو ثقيل من أمتعته الخاصة واكتفى بحمل ما هو مهم وباهض الثمن. في نفس الوقت الذي أغشي فيه على الكثيرين من النساء وكبار السن، وتم نقل بعضهم في سيارات الاسعاف، وكان هناك عدد كبير من نقاط التفتيش، ولكن من النادر أن يتم التفتيش على الأوراق الثبوتية للنازحين سواء كانوا أوكرانيين أو أجانب من إثنيات أو قوميات متعددة .

كان قسم من الجنود الأوكرانيين يحاولون تنظيم حركة السير المزدحمة والمثيرة لليأس طوال الطريق، ومن دون أن يعترضوا سبيل أحد. وعلى امتداد الفترة الزمنية الطويلة التي كنا نتحرك فيها باتجاه الحدود الأوكرانية، كان القرويون الأوكرانيون يظهرون لجميع النازحين من دون أي تمييز ترحيبهم واعتزازهم، ويوفرون لهم الشراب البارد والساخن والمأكل والملبس، ويواسونهم في المحنة التي عاشوا أيامها في ظل جحيم ونيران الحرب. وبدون أن أتخذ دور شاهد العيان الذي لا يدحض، فإني لم أستطيع أن أجد أي خلاف في المعاملة لدى هؤلاء، مع جميع من كانوا يمضون في سبيلهم لبلوغ الحدود، على الرغم مما كان يقال في بعض وسائل الاعلام الدولية والفيديوهات التي نشرت لبعض النازحين الأجانب، بأن هناك معاملات تمييزية ضد غير الأوكرانيين وبخاصة الهنود والأفارقة والعرب، وفي الحقيقة لم نلمس هناك أي تمييز، أو اية إهانات حدثت لهؤلاء إلا إذا كان أحدهم قد خالف الضوابط المعمولة والاجراءات المطبقة على الجميع في هذا الشأن .أمضينا ساعات طويلة للغاية في الطريق المؤذية للحدود، مع سلسلة طويلة من السيارات الخاصة للنازحين، وكثافة بشرية اكتسحت ممرات الوصول إلى مبنى المعبر الحدودي الأوكراني، حيث كان يتم التأكد هناك من جوازات السفر والوثائق الثبوتية للتصديق عليها من أجل السماح في العبور إلى الحدود البولندية. والحقيقة كانت هناك أعداد هائلة من الأشخاص الذين لم يتمكنوا من إحضار تلك الوثائق بسبب الفرار السريع والمفاجئ، وعلى الرغم من ذلك فقد سمحت لهم السلطات الأوكرانية بالعبور إلى بولندا بعد أن منحتهم أوراقا مختومة بشكل رسمي، تثبت أنهم قادمون مع زحف النازحين من أوكرانيا، وحتى يستفيدوا من المساعدات التي تقدمها السلطات البولندية والمنظمات الانسانية هناك إلى النازحين .

وفي الحدود البولندية واجهتنا أوقات عصيبة وساعات طويلة ومزعجة من الانتظار، وذلك بسبب السيل الجارف من النازحين المكثف وشديد التعقيد، وكذلك شكل الروتين الممل من جانب شرطة الجمارك البولندية، التي كانت تشدد على طلب الوثائق الثبوتية الشخصية من جميع القادمين من اوكرانيا، وبالرغم من ذلك لم يحدث هناك أي تصادم مثير بين الشرطة والحشود المتجمعة والذي خالف بعضها الاجراءات النظامية المعمول بها في الدائرة الجمركية البولندية. كانت هناك استعدادات موسعة ومكثفة من جانب المنظمات الخيرية والانسانية البولندية لاستقبال النازحين من أوكرانيا، وكان الترحيب بالجميع واضحا من خلال تقديم الاحتياجات الضرورية الأولية لجميع النازحين ومن دون تمييز، حيث قدمت لهم هذه المنظمات الطعام والشراب والملبس، ووفرت لهم مختلف وسائل النقل المجانية وبطاقات الهواتف المحمولة والمساكن ومراكز الايواء الجماعية المشتركة ومختلف الخدمات اللائقة بأوضاعهم ومعاناتهم. وفي الحقيقة، ورغم الصورة القاتمة التي شهدتها الساحة الأوكرانية برمتها، فانه مازالت هناك ملايين الأوكرانيين ممن يصرون على البقاء في بلادهم وعدم الرغبة في النزوح للدول الأخرى مهما كلف الثمن، وبعضهم صاروا يتقدمون بطلبات السماح لهم بحمل السلاح والمشاركة في صفوف المقاومة الشعبية من أجل الدفاع عن المجتمع والسيادة الوطنية. وهناك يوجد أيضا من الأوكرانيين ممن عكسوا مشاعر الاستياء وخيبة الأمل من المواقف الأمريكية والغربية التي خذلتهم وتخلت عنهم حيث تركتهم يصارعون وحدهم فقط في الميدان، وظلوا ينحون باللائمة عليهم لأنهم دأبوا، ولأعوام طويلة على توجيه الرسائل تلو الرسائل لهم من أجل مساعدتهم والتضامن معهم في محنهم، تمشيا مع مبادئ حقوق الانسان والحريات، وهم اليوم يتهربون من هذا الواقع المرير والمؤلم، ويختلقون الحجج والكثير من الأعذار للهروب عن مسؤولية المواجهة المباشرة والحاسمة مع أعتى قوة عسكرية عالمية تجتاح اليوم بلادهم ولا من رادع.

قبل عدة عقود من الزمن، كانت أوكرانيا تعيش في فلك الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت جمهورية اشتراكية يحكمها حزب العمال الشيوعي الموحد الأوكراني، الذي ظل يفرض ظله وكل سطوته الطاغية على مختلف مواقع القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي من دون أي منازع داخل المجتمع. وذلك عبر استخدامه مختلف وسائل القوة والردع وخنق الحريات، التي حولت البلاد إلى إقطاعية أو شبه “إقطاعية شمولية” تتصرف بكل مقدراتها الوطنية اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الأوحد الحاكم في أوكرانيا. وبعد تفكك نسيج الأتحاد السوفياتي وتبعثره، نتيجة انهيار المعسكر الاشتراكي برمته، بسبب الثورات المخملية والعنيفة التي عصفت بجمبع مرتكزاته وقواعده، حصلت أوكرانيا على استقلالها في 24 تموز/ يوليو 1990 وأصبحت عضوا في اتحاد الدول المستقلة عن كيان الامبراطورية السوفياتية، وأرست بعدها شكل نظامها الديمقراطي التعددي، رغم سيطرة ونفوذ الاكثرية الشيوعية على البرلمان وزعامة البلاد بقيادة الرئيس الشيوعي القديم ليونيد كوتشما. ولكن لم تكد تمضي سنوات قليلة، على ذلك الحدث التاريخي المهم، الذي أخرج أوكرانيا من عباءة الحكم الشيوعي الشمولي، وبعد انتهاء ولاية الرئيس ليونيد كوشما، واعلانه عن عدم رغبته بالترشح لدورة ثانية لحكم البلاد، اشتعل لهيب المنافسة الضارية للزعيم الآخر الذي سوف يخلفه في هذا المنصب، وكانت رحى هذه المنافسة تدور بقوة بين رئيس الحكومة، فيكتور يانوكوفيتش وحلفائه زعماء كتلة الأغلبية البرلمانية الموالين لموسكو، وزعيم المعارضة الأوكرانية فيكتور يوشيشينكو وحليفته يوليا تيمو شينكو وكتلتيهما البرلمانية الموالية للغرب. منافسة رهيبة وحامية في العام 2004، بسبب ما قيل عن عمليات التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية في شرق اوكرانيا لصالح المرشح الرئاسي رئيس الحكومة فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، وكادت أن تبقي البلاد على شفا حرب أهلية طاحنة، ولكنه في نهاية الأمر نتجت عن تداعياتها القوية والمفرطة ” ثورة برتقالية” مسالمة، صبت في صالح زعماء المعارضة الموالين للغرب، الذين تسلموا مقاليد السلطة بزعامة الرئيس يوشيشينكو وحليفته رئيسة الحكومة يوليا تيمو شينكو، وابعاد رئيس الحكومة عن واجهة السلطة.

وخلال الانتخابات التشريعية العامة التي جرت في 2010 استطاع رئيس الوزراء الاسبق ورئيس حزب الاقاليم فيكتور يانوفيتش، أن يحصل على النصيب الاوفر من أصوات الناخبين في الجولة الأولى من الانتخابات، وواجه منافسته القوية رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، واستطاع الانتصار عليها في جولة الحسم في 7 شباط/ فبراير 2010 ليكون بذلك رابع رئيس يتولى زمام الأمور في أوكرانيا. وبعد انتصار الثورة البرتقالية، وتشييد مشروعها السياسي والاقتصادي على أرض الواقع، تأمل الناس ببزوغ فجر جديد يمكن أن ينقل أوكرانيا إلى نهوض عصر جديد وإلى مصاف الدول المتقدمة وذات الأنظمة الديمقراطية الحديثة والحكم البرلماني الدستوري. لكن حدث ما هو غير متوقع، حيث بدأ الصراع المحموم بين أجنحة زعماء الثورة يحث الخطى على كافة الصعد السياسية والاقتصادية العامة، في نفس الوقت الذي شهدت فيه أوضاع البلاد تراجعا ملفتا في مختلف نواحي الاصلاح، وتخلي الغرب، الذي دعم وساند زعماء الثورة وحرضهم على الوقوف في وجه حلفاء الاتحاد الروسي، عن تحقيق وعوده الاقتصادية وضماناته لوحدة البلاد والاستقرار المنشود. وبعدها خابت آمال الشعب الاوكراني برمته وأحلامه وتطلعاته للمستقبل السعيد والمزدهر. ثم بعد ذلك، توالت على اوكرانيا بعد “الثورة البرتقالية” المخملية، عواصف عاتية من الاضطرابات والاعتراضات والاحتجاجات العنيفة والصارمة، توجت بثورة “يورو ميدان” في العام 2014 الموالية للغرب، والتي أطاحت بالرئيس المنتخب، فيكنور يانوفيتش، بعد تعليق حكومته قرار التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة والشراكة مع الاتحاد الاوروبي، وأجبر على مغادرة البلاد، والهروب متخفيا إلى موسكو، بعد حدوث الانقلاب المسلح، الذي قادته قوى المعارضة الاوكرانية المدعومة من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الاميركية، وراح ضحيته العشرات من المتظاهرين في ساحات الاعتصام في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف، ومختلف الميادين في المدن والمناطق الاوكرانية.

واليوم، وبعد كل تلك الثورات الاحتجاجية المطلبية الشعبية، التي هزت كيان الدولة الاوكرانية والمجتمع، وبعد تفتت وحدة اراضي البلاد، من خلال انسلاخ شبه جزيرة القرم وانضمامها إلى الاتحاد الروسي، واستقلال اقليم دونباس ومعظم مناطق الشمال الاوكراني، عن سيطرة السلطة المركزية، وتأسيسها لكيانات مستقله أو تابعة للاتحاد الروسي، تتحسر غالبية الشعب الاوكراني، على تلك الايام “الجميلة” الغابرة، التي عايشتها في ظل النظام الشيوعي الشمولي رغم جبروته وقسوته، والذي وفر لها على الأقل نوعا من أنواع الاستقرار والتعايش السلمي والتضامن الاجتماعي ووحدة كيان البلاد والحصول على كسرة الخبز. وعلى مدى أيام عدة، كنا في صحبة عدد من السياسيين والمفكرين والمثقفين في أوكرانيا، في مدينة لفيف ثالث أهم المدن الكبرى وعاصمة الثقافة الاوكرانية، ودار بيننا حديث طويل ومتشعب حول الهموم الكبيرة، التي مازالت تعاني منها البلاد، بعد كثرة المحن التي صادفتها، وكانت أجوبة الكثيرين منهم بأن الحنين إلى الماضي الشيوعي الغابر، هو الاقرب إلى قلوبهم، من الفوضى والانقسامات وفقدان المساواة وهيمنة فئات محدودة على معظم مصادر الثروة وتفشي الفساد والرشى وبلوغ مستويات الفقر إلى الحد الادنى التي تعيشها الآن بلادهم، مقارنة مع ما مضى حيث كانت مختلف الوسائل الأساسية للحياة المعيشية اليومية متاحة ومتوفرة للجميع المواطنين وباسعار رخصة مدعومة نسبيا من الدولة، بل أن بعضهم قد تجرأ وقال بكل بصراحة إنه يتمنى العيش مجددا في تلك الايام التي ظل يحكم فيها الحزب الشيوعي الاوكراني، رغم ما كان يتميز به من سطوة القمع والقهر وخنق الحريات، حيث لا سبيل اليوم في ظل الاوضاع المأزومة الراهنة، إلى التغيير الجذري الحقيقي والواقعي. ويقول بعض الناشطين في مجال حقوق الانسان في أوكرانيا، إن البلاد على ما يبدو قد تحولت إلى بيدق أوروبي وأميركي في لعبة الأمم، وهي مازالت تعاني الكثير من المعضلات الكبيرة، ولاسيما في مجالات السياسة والاقتصاد، حيث يحتدم الصراع في صفوف السلطة الحاكمة نفسها على الامتيازات والمكاسب الاقتصادية والمعونات المالية السخية، التي يقدمها الغرب والولايات المتحدة الاميركية، إلى الحكومة المركزية، من أجل انقاذ الاقتصاد الاوكراني وإعادة الاستقرار لعموم البلاد، في نفس الوقت الذي لا تبدو فيه مهمتها أكثر جدية بمعرفة كل ما تعانيه غالبية الشعب الاوكراني من أوضاع اقتصادية ومعيشية خانقة، وتفكك كيان البلاد، وكذلك وجود التحديات الكبيرة على الاهداف الاستراتيجية مع الاتحاد الروسي.

ومن المؤكد والحال هكذا فأن الأمور سوف تسير من سيء إلى الأسوأ في اوكرانيا، في ظل تصميم أوروبا والولايات المتحدة الاميركية، على خداع الاوكرانيين، وعدم مبالاتهما، بإرادة وتطلعات الرأي العام الاوكراني، وفي حديثه للصحافة الاوكرانية، قال الرئيس الاوكراني الاسبق فيكتور يوشيشينكو “إن أوكرانيا تمر في الوقت الراهن، بأصعب أزمة سياسية واقتصادية في تاريخها الحديث، وأن عملتها الوطنية، فقدت خلال أكثر من عام ونصف العام قرابة 350 في المئة من قيمتها الاجمالية، وهي تعيش حاليا في مأزق خطير ومقلق. وفي هذا يقول أحد المراقبين في الشأن السياسي والاقتصادي الاوكراني “لو أن الغرب والولايات المتحدة الاميركية، أرادوا أن تبقى اوكرانيا بمعزل عن التحديات الكبيرة والفوضى العارمة، التي تواجه مستقبلها السياسي والاقتصادي المأزوم، فأنهما يستطيعان بمجرد جرة قلم، أن يخرجوها من النفق المظلم التي تتخبط فيه، وان التاريخ دائما يوضح لنا، بأن أوروبا والولايات المتحدة الاميركية، يتعمدون في خذلان اصدقائهم، حيث المصالح دائما تتغلب على المواقف المبدئية، وفي كل الأحوال، فمن المؤكد والحال هكذا فإن اوكرانيا سوف تبقى في هذه المرحلة على الأقل، معلقة على كف عفريت، أو فوهة بركان، لا تعرف كيف ومتى ينفجر.

وبحسب أحد المراقبين، فأن أوكرانيا اليوم أصبحت ضحية صراعات اقليمية ودولية خطيرة، وآن الأوان لتسريع عملية إنقاذها من مأزق السياسة والاقتصاد والعسكرة، الذي تتخبط فيه، وهو ما يجب على المجتمع الدولي القيام به، من أجل استقرار وأمن البلاد، وتوفير فرص الرفاهية للشعب الاوكراني، الذي واجه العديد من المشكلات، وتعرض للكثير من الحرمان والاضطهاد، وأن أقصى ما يتطلع له اليوم الشعب الاوكراني برمته، هو تكريس وتعزيز الأمن والسلام والاستقرار ووحدة الديار وتأمين لقمة العيش، واختيار أوكرانيا الطريق الصحيح، التي تعتزم السير فيه لمواكبة أحداث العصر، وفي أسرع وقت ممكن .

هاني الريس

10 آذار/ مارس 2022

Loading