قبل أن تغيب الحقيقة .. رحلة عمل عابرة مع نبيل رجب في المجال الحقوقي

في منتصف تموز/ يوليو 1999  وعلى حين غرة رن جرس هاتفي، على مكالمة كانت تبدو من مكان خارج الدنمارك، وكان على الخط، شخص عرفني بنفسه أنه نبيل رجب، وبعد توجيه التحية لي، قال، انه حصل على رقم هاتفي من الصديق على قاسم ربيعة، في البحرين، الذي نصحه بالاتصال بي عندما سأله عن شخص يعمل في مجال حقوق الانسان، ويستطيع أن يقدم له المساعدة والنصح في هذا الميدان، لانه وآخرين يسعون لبناء منظمة حقوقية في البحرين. وبحسب كلامه انه كان يتحدث معي (حاليا) ليس من داخل البحرين، بل من إحدى (كابينات) الهاتف العمومي في المملكة السعودية، نظرا لتعسر الاتصالات السلكية واللاسلكية من داخل البلاد، بسبب فرض الرقابة الامنية المشددة والصارمة على شبكات الاتصال الفضائي الداخلية والخارجية، في حالة لازالت تترنح فيها البلاد على وقع تداعيات الانتفاضة الدستورية، التي خلفت ورائها بحر من الدماء وآلاف السجناء والفارين من البلاد، الذين طالبوا بالحرية.

بدأ نبيل رجب، حديثه بالقول (انه كان قد أتفق ومجموعة أشخاص في البحرين) للسعي لتأسيس جمعية حقوقية وطنية مستقلة للدفاع عن الحريات الديمقراطية والحقوقية في البحرين، ولأن الاوضاع لازالت هشة ومضطربة وغير آمنة في البلاد في ذلك الوقت، فإن الاعلان عن قيام هذه الجمعية سوف يواجه تحديا صارما من السلطة البحرينية، ولربما قد يتعرض المؤسسين لها للخضوع للمحاسبة والاعتقال، ولهذا السبب فانهم عازمون على تأسيس نشاطهم الحقوقي من تحت الارض. ولكن نظرا لافتقارهم للمعلومات التي ربما قد تساعدهم على وضع الخطط والبرامج، وإلى حاضنة وإمتداد خارجي يمهد لهم السبيل إلى الوصول إلى المنظمات الحقوقية الدولية، ويمكن ان تقدم لهم عونا واضحا لتأسيس جمعيتهم في البحرين.

فأنهم وبناءا على نصيحة مقدمة من الاستاذ علي ربيعة، ينوون بناء علاقات مباشرة وبشكل سري للغاية مع لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين، التابعة للجبهة الشعبية في البحرين،التي تعمل بنشاط واضح ومكشوف من خارج الاراضي البحرينية.

رحبت أنا بتلك الخطوة وامتدحتها، وقلت للرجل لا بأس من ذلك، وهذه ربما ستخلق فرصة جيدة للتعارف والتعاون فيما بيننا في هذا الشأن، حيث كنا دائما نتشرف بالتواصل وبالتعاون مع كل مواطن شريف ومخلص يسعى للعمل والنشاط من أجل خدمة القضية الوطنية، ولكن دعني أفكر بعض الوقت لكي يحسم الأمر، وفي هذا الخصوص كذلك لابد لي من أن أستشير زميلي منسق العمل في اللجنة، عبدالنبي العكري، حيث أن جميع قرارات اللجنة، تتخذ بشكل جماعي وليس بالصفة الفردية. وإذا حصلت هناك موافقة أولية من جانبه بهذا الخصوص، فإن الامور سوف تسير على مايرام.

ولانه عندما كنا في مسيس الحاجة الملحة في ذلك الوقت، إلى الاشخاص المتطوعين المستعدين للعمل معنا في ظل الاوقات العسيرة والصعبة، وافقنا على التعاون مع نبيل رجب، كنصير وكممثل لمجموعة الاشخاص الذين يسعون للعمل لتأسيس جمعيتهم الحقوقية في البحرين، وبعد فترة قصيرة من التفاهمات المطلوبة، بدأت خطوات التواصل تحث الخطى بيننا، وصار الرجل بين حين وآخر، يزود لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين، ببعض الاخبار والمعلومات المتفرقة عن الاوضاع الاجتماعية والحقوقية في الداخل البحريني .

في بداية عمله التطوعي مع اللجنة، قال أن عليه واجب وطني نحو خدمة المجتمع وتعريف ما يحدث بداخله من هموم كبيرة تثقل كاهل المواطن البحريني، وانه مستعد للمخاطرة بنفسه من أجل توصيل صوت هذا المواطن للخارج، وبما أن خطوط الهاتف في البحرين، أصبحت مراقبة بشكل مكثف من قبل السلطات الامنية، منذ أحداث الانتفاضة الدستورية وما بعدها، فإن طرق التواصل بيننا سوف تتم  عبر الهاتف المباشر من خارج الاراضي البحرينية، أما انها ستكون من السعودية أو من تايلاند، حيث أن (نبيل رجب) سيكون متنقلا بين هذين البلدين بين حين وآخر، بحكم أن لديه هناك ارتباطات تجارية خاصة، وإلى هنا شددت على يديه ونصحته بتوخي الحيطة والحذر، في كل تحركاته ومساعيه نحو هذا الهدف، خاصة وأنه أختار أن يمضي في طريق صعب وخطيرة للغاية، وتترصدها مواجهات خطر الاعتقال التعسفي والسجن، لانه لا يعيش في المنفى مثلنا، بل في أراضي دولة بوليسية قمعية، لا تعرف غير نظام البطش والقتل والتهجير والنفي التعسفي .

منذ ذلك الوقت ظل نبيل رجب، ينشط باتصالاته الهاتفية معنا في لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين، ويزودنا بالاخبار الجديدة والمستجدة بخصوص الاوضاع الاجتماعية والحقوقية في عموم البلاد، بحسب كل ما يستطيع القيام به في هذا الشأن. تطورت صورة العلاقة العملية والمهنية واكتساب الثقة المتبادلة بيننا، وصار شكل التعاون المشترك يحث الخطى بشكل سلس ومنظم، وعندما كنا ننوي اقامة ورشة عمل حقوقية في لندن، عرضنا عليه أمر المشاركة فيها بصفته “ضيفا” على برنامج العمل في الورشة والاستفادة من تجاربها للمستقبل. أبدى الرجل موافقته على الدعوة من دون أي تحفض أو خوف.

عند ذلك تقدمت لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين بطرح اسمه على لجنة العمل المنظمة للورشة، كضيف مشارك، وقبل التأكد من جوابها عرضنا عليه أن ندفع له ثمن تذاكر السفر ذهابا وإيابا من البحرين إلى لندن وبالعكس، ولكن الرجل أصر على أن تكون رحلته بين البلدين، على نفقته الخاصة، وكذلك أيضا رفض أن يأخذ حتى فلسا واحدا من المصاريف التي كانت مخصصة للاشخاص المشاركين والضيوف في الورشة.

كنت أنا شخصيا أول المستقبلين له، عندما وصل من مطار هيثرو الدولي في لندن إلى عنوان الشقة، التي شاركني والزميل عبدالنبي العكري، الاقامة فيها في شارع أجورد روود في لندن.

في اليوم التالي حضر الرجل معنا فعاليات ورشة العمل التدريبية والتأهيلية، بوصفه ضيف ومحسوب على لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين، وذلك بالرغم من أعتراض بعض المسؤولين عن تنظيم الورشة، التي ظلت تراودهم بعض الشكوك الامنية تجاه أي عنصر جديد وطارىء وحديث التنظيم وبخاصة الاشخاص القادمين من البحرين، حيث لاتزال البلاد تعيش على وقع حالة شديدة من التعقيد الأمني، وحملات الاعتقال التعسفي في صفوف المعارضة البحرينية، وصرامة المراقبة الامنية، التي فرضها فرضا قانون أمن الدولة السيئ الصيت، وكان البعض الآخر يتصور، من أنه ربما قد يكون من الاشخاص المرتدين من المعارضة، الذي أخذ يزج بهم جهاز المخابرات البحرينية تحت أوجه عديدة لمراقبة تحركات المعارضين في الخارج.

في كل الاحوال ومن المؤكد كنا قد أستطعنا أن نزيل عنهم أسباب الحيرة والشك بشخص نبيل رجب، الذي أختبرنا نواياه الحسنة الاولية في خدمة القضية الحقوقية، والذي جاء عبر تزكية خالصة من شخصية وطنية معروفة ونظيفة وتاريخية، وهو النائب السابق في البرلمان البحريني المنحل، علي قاسم ربيعة، وبعد زوال كافة تلك الشكوك الضنية، شارك نبيل رجب معنا في أعمال الورشة بصفته “ضيف مشارك” من جهة لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين.

ومباشرة بعد الانتهاء من أعمال الورشة، وبمقترح من جانبي، رتب لنا الدكتور سعيد الشهابي موعدا للقاء مع اللورد ايريك أيفبري رئيس لجنة حقوق الانسان في مجلس اللوردات البريطاني، وهو الرجل الوقور والشجاع الذي وقف مواقف مشرفة وصلبة وأصيلة في الدفاع عن قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان في البحرين طوال حقبة سنوات الانتفاضة الدستورية في تسعينيات القرن الماضي وما بعدها، وتعرض إلى انتقادات حادة وضغوط كبيرة من قبل السلطة البحرينية نتيجة تمسكة بتلك المواقف المبدئية.

وبناء على الموعد المسبق ذهبنا نحن الاشخاص الثلاثة، الدكتور سعيد الشهابي، ونبيل رجب، وأنا، إلى منزل اللورد أيريك أيفبري في لندن، وقدمنا له نبيل رجب، على أنه ناشط حقوقي، جاء لتوه من البحرين، وربما قد يكون لديه سجل حافل بالمعلومات المستجدة حول تطورات الوضع الاجتماعي والامني، في الداخل البحريني. رحب اللورد ايريك أيفبري، بضيفه الجديد، نبيل رجب، أجمل ترحيب، وظل يستمع منه لشرح طويل ومفصل (باللغة الانجليزية) حول تدهور الاوضاع الانسانية والحقوقية في البحرين، في ظل اصرار السلطة البحرينية على خنق كافة الحريات الديمقراطية والمدنية، وفرض قبضة طاغية على المجتمع، وعدم التزامها بالتعهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان.

بعد اللقاء الذي استمر قرابة ساعة وربع الساعة، غادرنا معا، الدكتور سعيد الشهابي، ونبيل رجب، وأنا، منزل اللورد اريك أيفبري، المتواضع والمتقشف للغاية. كان نبيل رجب، حينها سعيدا جدا بهذا اللقاء وكان شاكرا حضوره معنا لمقابلة قامة شامخة من القامات الحقوقية البريطانية المعروفة في مجلس اللوردات البريطاني، ولاسيما وأن اللورد اريك أيفبري، ظل يستمع إليه باذن صاغية وأهتمام بالغ، وشد على أياديه بقوة، لانه دافع بحرارة عن المضطهدين والسجناء السياسيين والحقوقيين في البحرين.

وعندما عقدت المعارضة البحرينية، مؤتمرها العام في دار الحكمة في لندن، التي شاركت فيه أكثر من 40 شخصية بحرينية من مختلف فصائل واطياف المعارضة والمستقلين، قدمنا الدعوة الى نبيل رجب للمشاركة فيه، بصفته “ضيفا”، من البحرين، وقد كان لحضوره فرصة سانحة لتبادل التعارف بينه وبين قيادات المعارضة في الخارج، الذين كانوا يأملون في ذلك الوقت بأن يتمكنوا من كسب أي عنصر نصير في الداخل يستطيع التعاون معهم من أجل خدمة القضية الوطنية.

في اليوم الاخير من المؤتمر سافر، نبيل رجب الى باريس، لمدة يومين بعد ان زودناه بعناوين زملائنا النشطاء الحقوقيين في الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، باعتبار أن لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين، عضوا في صفوف الفيدرالية الدولية، وذلك بهدف التعرف عليهم، وربما قد تكون بينه وبينهم أمور أبعد من ذلك في المستقبل.

وفي نفس الوقت أعطيناه عنوان المستشفى، الذي كان يتعالج فيه خلال الفترة نفسها المناضل الوطني البحريني أحمد ابراهيم الذوادي الامين العام لجبهة التحرير الوطني البحرينية، في العاصمة الفرنسية باريس، حيث كان يتلقى علاجه هناك من مرض عضال، الم به خلال السنوات الاخيرة، وذلك من خلال دعم معنوي من الرفاق في الحزب الشيوعي الفرنسي، الذين تكفلوا فقط بدفع مصاريف اقامة الرفيق الدوادي في المستشفى، وترك باقي مصاريف العلاج الأخرى على عاتقه شخصيا، وعلى عاتق جبهة التحرير الوطني البحرينية، ولجنة التنسيق المشتركة بين الشعبية والتحرير.

في باريس التقى نبيل رجب بعض المسؤولين في الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، وتعرف عليهم واستعرض معهم جملة من التطورات الحقوقية الجارية في البحرين، ومن بعدها قام بزيارة الرفيق أحمد إبراهيم الذوادي، في المستشفى للاطمئنان على صحته، وقال بانه قد ساهم في حملة التبرع له بمبلغ 200 دولار أميركي. بعدها عاد نبيل رجب الى لندن وبقي معنا بضعة أيام قبل أن يغادر إلى البحرين. ولحظة وصوله إلى مطار البحرين الدولي، اتصل بي مباشرة من هناك عبر الهاتف، وأخبرني بأنه قد تعرض الى بعض المضايقات الامنية من قبل جهاز أمن مطار البحرين الدولي، لكنها في واقع الحال، لم تؤثر بشكل ملفت على وضعه الامني ـ بحسب ـ كلامه، وعندما تحرينا الامر بهذا الخصوص مع بعض المنظمات الحقوقية في لندن، لم يظهر لها أن الرجل قد تعرض إلى أية مسائلة من جهاز أمن مطار البحرين .

بعد فترة من التجربة الاولية في العمل، كنا قد شعرنا بان، نبيل رجب، ليس من إولئك الاشخاص الأقوياء الذين يتمسكون بشدة بالمبادىء من دون أن تثنيهم الويلات القاسية والمصاعب الموجعة، وكنا قد شعرنا أيضا من أنه لا يستطيع التأقلم مع أوضاع تتطلب مشقات وضغوط كبيرة وخطيرة، لانه لم يأتي من رحم أي منظمة وطنية مؤدلجة تعمل من تحت الارض، وتفرض على أعضائها قوة الصمود وتقديم التضحيات الكبيرة عندما تتعرض أرواحهم لمخاطر التعذيب البشع، أو الموت تحت وطأة التعذيب في سجون النظام السياسي، وكنا نرى انها كانت تراود أفكاره أحلام الصعود والشهرة بشكل سريع ومبكر، وتساوره إغراءات (الزعامة الكارزمية) كمدافع عملاق عن حقوق الانسان في البحرين، مما جعلنا قلقين من ذلك، وكان الرجل في بداية مشواره الحقوقي العلني، قد انتمى إلى الجمعية البحرينية لحقوق الانسان، التي ورثت النضال الحقوقي عن لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين التابعة للجبهة الشعبية في البحرين، بعد فترة الانفتاح السياسي، في نطاق ما سمي بمشروع الاصلاح، وتحويل البحرين من دولة المراقبة الأمنية إلى المملكة الخليفية الاولى.

وعندما لم يحالفه الحظ في الحصول على مركز متقدم في الصفوف الاولى داخل الجمعية قدم استقالته منها مع آخرين لنفس السبب، ومن بعدها ببضعة شهور أسس مع الناشط الحقوقي عبدالهادي الخواجة، وحسن موسى شفيعي، مركز البحرين لحقوق الانسان، ومباشرة بعد حصول المركز على الترخيص الرسمي من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية البحرينية، قابل الاشخاص الثلاثة أمير البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وتقدموا ببالغ الشكر والامتنان لشخصة “السامي والرفيع” لمناسبة حصولهم على الموافقة الحكومية الرسمية على فتح مقر للمركز، وتعهدوا أمامه من أن المركز سوف يحترم نصوص القوانين والدستور.

وبعد سنوات من تسلمه منصب رئيس مركز البحرين لحقوق الانسان، خلفا لرئيسه المستقيل الدكتور عبدالعزيز ابل، بسبب تعارض أفكاره مع الاهداف السياسية التي سلكت في المركز، بذل نبيل رجب، جهود كبيرة وحثيثة في ركب الموجة وتلميع صورته في مجال حقوق الانسان، بخطوات كانت تتخطى سيرته الذاتية في هذا الميدان، وكان قد صرف أموال باهضة من جيبه الخاص ومن فائض المنح المالية التي تصل المركز من جهات أمريكية وأوروبية داعمة لمنظمات حقوق الانسان، على نشر الدعاية لنفسه، وكان يحفز جماعات مناصرة لنشاط المركز للعمل على الصاق صور عملاقة له على حيطان المنازل وأعمدة الكهرباء في العديد من القرى وبعض المناطق البحرينية، وذلك من أجل ترسيخ وتوسيع شهرته كزعيم وقائد حقوقي، كما كانت تساوره أيضا أحلام الفوز بجائزة نوبل الدولية كمناضل حقوقي عالمي، ولذلك فقد سعى بشكل مفرط لحث الآخرين على جمع تواقيع تؤهله لخوض معترك المنافسة للحصول على هذه الجائزة الدولية، ولكن المهمة تلك واجهت صعوبات عدة ولم تكتمل بصورة صحيحة وفشلت في النهاية، وكانت صورة صهوة حصان الجوكي الاميركي الملهمة، تذغدغ أحاسيسه ومشاعره، وتدفع به نحو الارتماء بأحضانها مهما كانت صعبة وعفنة ومكروهة من الآخرين، ولكنه رغم ذلك ركب موجة الملتحقين بها وحقق لنفسه ما اراد الحصول عليه بشكل واسع .

نبيل رجب، توسعت شهرته في البلاد، وخاصة في خضم أحداث الحراك الشعبي في شباط/ فبراير 2011 بعد أن كان ظله قد بهت لفترة طويلة، ونال أهتماما اعلاميا واسع النطاق على المستوى الوطني، ودخل حلقة الرموز الوطنية الكبيرة على المستوى الحقوقي رغم افتقاره للخبرة النضالية الطويلة التاريخية والارث العريق في ميدان حقوق الانسان، وتنكر لافضال الآخرين عليه، لانه ظل يصور لنفسه بأنه أصبح “الفارس الابيض” وحده في الميدان، وصاحب التضحيات والقدرات الشخصية، والذي لا يستطيع أحدا حتى السلطة البحرينية القمعية، من الاقتراب إليه عوضا عن ردعه، ما دام أن اقدامه قد ترسخت وبشكل قوي داخل المجتمع وبين المنظمات الحقوقية الدولية، وكذلك أيضا حصوله على الوعود الاميركية الكثيرة للوقوف دائما إلى جانبه في المواقف الخطيرة والصعبة.

وقد ظلت أسرار لعبة الاعتقالات والافراجات المتكررة والمداورة في مشواره الحقوقي تثير الجدل والشكوك في أوساط الناس، فهناك من قال أنه ربما أصبح في تلك الفترة بالذات (رجل الولايات المتحدة الاميركية الحقوقي في البحرين) وهي وحدها القادرة على رعايته وحمايته في كل الظروف والاوقات الشديدة والصعبة، لذلك، فأنه على امتداد سنوات تلك الرعاية والحماية، لم يتعرض الرجل لكل ما كان قد تعرضت له الرموز والقيادات الوطنية والاسلامية، السياسية أو الحقوقية البحرينية، من إكراهات ومن عقوبات صارمة وتعذيب وحشي في سجون النظام الخليفي، أو لكل سنوات السجن الطويلة والمؤذية، التي ظلت تطال بعضهم بين حين وآخر، حيث أن سفراء الولايات المتحدة الاميركية المتعاقبين في المنامة، ظلوا يعملون دائما للدفاع عنه أمام السلطة البحرينية، عندما كانت تتعرض حياته للضغوط الشديدة أو الاعتقال التعسفي، ويحضرون دائما جلسات المحاكمات التي تعقد لمحاكمته في محاكم النظام في المنامة، ويرسلون وفودا للنيابة عنهم لتهنئته بعد خروجه من السجن، وذلك بخلاف غيره من المناضلين السياسيين أو الحقوقيين الوطنيين الآخرين، الذين لا يحضون بالرعاية الامريكية ولا الغربية.

إضافة إلى كل ذلك فإن مركز البحرين لحقوق الانسان، ومختلف فروعه في العواصم الغربية، التي يقف على رأسها نبيل رجب، بوصفه رئيسا للمركز، ظل يتلقى أكثر من غيره من المنظمات والجمعيات الحقوقية البحرينية الاهلية المستقلة، موارد مالية سخية ومضاعفة، من المنح المالية التي تقدمها مختلف مؤسسات دعم التنمية الديمقراطية وحقوق الانسان في الولايات المتحدة الاميركية.

ولكن من الجانب الآخر ظل البعض يعتقد بأن الرجل، ربما قد يكون صادقا ومخلصا للقضية، ولماذا لا نحسن الظن به ونتهمه بامور أخرى؟، ولكن في جميع الاحوال ومهما تبين من سيرة الرجل الحقوقية من ايجابيات أو سلبيات، فان قضيته الآن أصبحت واضحة كوضوح نور الشمس، فهو قد تبين انه لم يضحي، من أجل قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان في البحرين، من أجل سواد عيون المجتمع، بل من أجل مصلحة ذاتية وغايات في نفس يعقوب، ولذلك بعد أن شعر بطوق السلطة الأمني يلف عنقه، تململ وابتعد عنه مسافات وبرازخ، ولم يعد آلان في وارد الدفاع عنه بأساليب “عنترية” كما في السابق، وذلك في مقابل أن ينجوا بجلده من عذابات وغياهب السجن المؤلمة، الذي لايزال الرجال المناضلين الاشداء صامدين في غرفه وزنازينه الضيقة المعتمة والموحشة، بداعي المرض وتحت ذرائع أخرى لكي يلتحق بعد ذلك بقوافل المواطنين المفرج عنهم في ما يسمى ب”مشروع العقوبات البديلة” الذي روج له النظام الخليفي القمعي بنشاط دعائي لامثيل له، وتوسل به بجميع الطرق الملتوية والخبيثة لتضليل الرأي العام الوطني والعالمي، بأن هناك واحة للديمقراطية وأخرى لاحترام حقوق الانسان، وقد صدق بمزاعمه البعض.

ولم يضحي الرجل الذي زعم بانه “الفارس البطل” بأكثر مما ضحى به غيره من السياسيين والحقوقيين البحرينيين، الذين تعرضوا على إمتداد عقود طويلة من الوقت، إلى التنكيل بهم وبعوائلهم وبأوضاعهم الحياتية العامة، وفرض الاجراءات والعقوبات والاحكام القضائية الطويلة الأمد الصارمة والقاتلة، والقتل تحت وطأة التعذيب، والمحاكمات الجائرة والاعدامات الظالمة، والابعاد والتهجير والنفي القسري والتعسفي، وظلوا يعاملون بصورة صارمة ووحشية في ظل قوانين القمع السارية في عموم البلاد .

ولكن أخيرا الشيء الواضح الذي ربما قد توقف عنده الاميركيون، فيما يتعلق بقضايا الوقوف إلى جانب، نبيل رجب، خلال السنوات الاخيرة، وترك المجال للسلطة البحرينية بأن تتصرف في كل ما تشاء ضده، هو أن الاخير الذي كان يفترض أنه يحمل رسالة حقوقية صرفة، صار يقحم نفسه ويتورط في مواقف سياسية صعبة، وينغمس في عالم السياسة، أكثر مما هو الحال في جوانب تقصي الحقائق في ميادين حقوق الانسان، وهذا الأمر بحد ذاته ربما كان يحرج الامريكيون .

هذا الوضع الشاذ برمته، كان يشكل قلقا حقيقيا بالنسبة للذين ظلوا يدافعون عن نبيل رجب، من أمريكيين وبحرينيين، ومنظمات حقوقية دولية، عندما يظل يتعرض للمسائلة أو المكاشفة أو الاعتقال، ولذلك فأنهم يظلون محرجين ومربكين أمام تصرفات الاجهزة الامنية البحرينية، التي تحاول ـ بحسب ـ قوانينها المرعبة، أن تردع الممارسة السياسية الواضحة والصريحة لاي ناشط يعمل في المجال الحقوقي، ويزج بنفسه في ممارسة النشاط السياسي، ومن هنا وضع الرجل نفسه في مأزقا لا ضرورة له، وترك المجال للسلطة البحرينية من أن تنال من “هيبته” وتدفع به إلى رحلة السجن الاخيرة، التي لم تنتهي فترة سنواتها بالكامل، قبل أن يطلب الرأفة والعفو من السلطة ويخرج مع قافلة المفرج عنهم من السجناء السياسيين والحقوقيين، في ما سمي “بنظام العقوبات البديلة” في البحرين، ومن بعدها للاسف تحول الرجل ضحية لليأس، واستحوذ عليه شعور الاحباط، واصبح في نظر الكثير من الناس، أنه ليس أكثر من مجرد ذكرى من الماضي النضالي الحقوقي .

وهذه تظل دائما سنة الحياة الدنيا، شيء يموت على الدوام وآخر يبتدء بالنهوض ليحيا .

هاني الريس

29 نيسان/ ابريل 2023

Loading